هل في الأردن "دولة عميقة" .. !!
08-12-2012 07:54 PM
بداية..!!
لم يحدد المفكرون تعريفا محددا، جامعا مانعا، لمفهوم "الدولة العميقة"، ولم يتمكنوا من تحديد اللحظة التاريخية لنشأته ولا في أي بلد نُحت.. أفي أوروبا أم تركيا أم أميركا اللاتينية أم في مكان آخر ..؟!
وبرز مصطلح "الدولة العميقة" للتداول مؤخرا بعدما سقطت أنظمة وبدأت عمليات التحول "الملتبسة" لنمط جديد من الحكم (مصر مثالا)، وجُلب المفهوم من رفوف التاريخ لتفسير ظواهر الواقع العربي المتحرك وفهم الكثير من السياسات والقرارات.
ومن بين أكثر تعريفات "الدولة العميقة" تناولا، أنها: " مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي.."، وتأخذ عادة توصيفا متنوعا من أنها "دولة خفية" أو "دولة داخل الدولة".
لكنه، بالمحصلة، توصيفا كاشفا لصراع يأخذ أشكالا مختلفة داخل الدولة الواحدة وبتأثير خارجي مصلحي أحيانا، ويقوده شكل من التحالف بين سياسيين وموظفين على المستوى الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وله نفوذه داخل وخارج البيروقراط الرسمي.
هدف هذه التحالف، النهائي، بالأساس، مقاومة أي تغيير من شأنه المس بمصالحه.. وإن رأى مفكرون أن "الدولة العميقة" يمكن أن تنشأ لغايات وطنية بحتة.
إذن، لم يحدد المفكرون إطارا تنظيميا أو نظريا لمفهوم "الدولة العميقة" يمكن القياس عليه، ولم يبدعوا فهما محددا لمعاييره واشتراطاته لاستكشاف أنماطه واشكاله. ما يؤكد أنه إصطلاح مفتوح على تفسيرات كثيرة لمعناه، وتنويعات مختلفة لأنماطه، بحسب الدولة وظروفها وطبيعة الصراع داخلها ونوعية أدواته.
ففي كل دولة توجد "دولة عميقة" وليس شرطا أن تأخذ شكلا مؤسسيا ونمطا تنظيميا إداريا واضحا يمكن تحديده وكشفه أو في الأقل معرفة كيفية تصرفه. ومن الممكن أن تكون تحالفت غير منسقة يتحرك فيها كل شخص، في القطاع العام أو الخاص، تبعا لتقدير مصالحه ومكتسباته، ومحصلة هذا التحرك خلق طبقة تقاوم التغيير.
وكل فرد أو مجموعة أفراد فيها يقاومون بحسب ما يرون من أساليب ووسائل للقضاء على مشروع التغيير أو التحكم بمنتجه تحكما يحفظ هذه المصالح والمكتسبات ويبقي السياق العام تحت السيطرة.
وليس شرطا ابدا أن تنجح "الدولة العميقة" في تحقيق هدفها، وإن بإمكانها أن تعيق التغيير وتربكه وتعطل إنجازه لفترة طويلة.
سؤال الحالة..!!
إن تجاوزنا سعة المفهوم وغموض معناه وقواعده، فمن الممكن طرح التساؤل التالي: هل في الأردن "دولة عميقة" أم "لا"..؟!
الإجابة المختصرة.. نعم، لدينا، ولو نسبيا، شكل من أشكال "الدولة العميقة" المقاومة للتغيير الجذري في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهي غير راغبة، أبتداءً، في إحداث التغيير وتريد حفظ الواقع الراهن، ولكن، إن فرض عليها التغيير فهي تريده تغييرا متحكما به، ومحدد السقوف سلفا، ويضمن لها البقاء في صلب المعادلة ويحفظ لها مصالحها ومكتسباتها.
و"الدولة العميقة" عندنا تتشكل من مجاميع داخل طبقة الحكم وترتبط بها قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية مستفيدة من الوضع الراهن.
وهذه المجاميع تشكل لديها يقين أن التغيير، ولا أقصد تغيير النظام بل سياساته، سينتهي في محصلته إلى إزاحة طبقة الحكم الحالية ومن يرتبط بها.
إذ لا يمكن أن يقبل منطق التغيير وضروراته واشتراطاته الموضوعية أن تستمر أدوات وأنماط إدارة الدولة القديمة في إدارة الدولة الجديدة. لأن التغيير، ببساطة شديدة، جاء لتصفيتها، سياسيا، بوصفها المسؤولة عن عهود من الفشل ومراكمة الإخفاقات والفساد في كل الشؤون الوطنية.
لذلك يبرز، جليا واضحا، أن "الدولة العميقة" عملت من مختلف المواقع (...) ووظفت كل الطاقات والأدوات (...) لمقاومة التغيير العميق وتمكنت من تعطيله حتى اللحظة، وما قبلته من تغيير، سياسيا وتشريعيا، حرصت أن لا يطال صلب وعصب المعادلة وان يكون في هوامشها.
بمعنى، أرادت تغييرا "ديكوريا" محدودا يظهر استجابات لمطالب الشارع من جهة، وشراء الوقت من جهة أخرى على أمل أن تتغير الظروف لوقف مسار التغيير أو إذا أمكن العودة عن ما تم من تغيير.
و"الدولة العميقة" لا تنتظر أن تبرد حركة الشارع تلقائيا، بل هي فعّالة في تهشيمه وتفكيكه بوسائل متعددة ومتنوعة، ويمكن التدقيق في مآلات الشارع وحراكه لفحص واستكشاف ما بلغته حالة التفكيك.
إن فئات كثيرة ارتبط وجودها وتجذرت مصالحها عبر عقود بالإطار الرسمي، وهي لا تتصور نفسها خارجه كنتيجة طبيعية للتغيير، لذا تمارس ضغطا كبيرا، وبأشكال عدة، على صناعة القرار لتضمن قرارات وسياسات واستجابات محدودة غير جوهرية.
وهذه الفئات لا تتقبل فكرة تصعيد نخب جديدة لتولي المسؤوليات في شتى المجالات والمواقع، لأنه مثل هذا التصعيد يعني إزاحتها، لذلك فهي لا تتقبل التغيير إلاّ من خلالها وبما يضمن استمرارها ضمن دائرة الفعل والتأثير.
وسط هذه الفئات، فئة قليلة لا تقاوم التغيير على قاعدة حفظ المصالح، وإنما من بواعث قلق وطني وخشية من أن بعض جوانب التغيير قد تفضي إلى تبعات سياسية بفعل مؤثرات خارجية لديها سيناريو ما حيال الوطن من شأن نفاذه وضع الدولة كلها في مهب الريح.
لكن هذه الفئة يضيع هدفها ولا يظهر باعثها بصورة جلية لأن الأهداف المصلحية للفئات الأخرى تطغى على المشهد، وعلى نبل ما تحمله الفئة القليلة من رؤية لشكل ومضمون التغيير غير أنه يحتاج إلى فحص لفهمه وتقييم واقعيته.
إجمالا، هذه دولتنا العميقة.. ضررها أكبر من نفعها.. فاستمرار إمساكها بالزمام يعني أن نمط الحكم ذاته ماض مع بعض الرتوش لكنه في النهاية لن يقوى على مقاومة التغير إلى الأبد..