الرسالة الملكية من رام الله
عيسى الشعيبي
07-12-2012 06:04 PM
كم تمنيت في سري يوم أمس، وأنا أشاهد على هواء البث الفضائي المباشر وقائع الزيارة الملكية إلى رام الله القريبة من مسقط رأسي، أن أكون واحداً بين جموع المستقبلين في رحاب المقاطعة لأول قائد عربي يحط ركابه على أرض الدولة الفلسطينية، الطالعة لتوها من معجن الأمم المتحدة كرغيف خبز ساخن شهي. وكم وددت أيضاً لو أن الأقدار الشخصية واتتني، والمصادفات الطيبة مكنتني من التلويح للملك عبدالله الثاني عن بعد، والتصفيق له طويلاً وهو ينزل أهلاً ويحل سهلاً في العاصمة الفلسطينية المؤقتة للدولة الآتية على الطريق دون ريب.
وبعيداً عن مشاعر الغصّة الشخصية العابرة هذه، وبمنظور القارئ الموضوعي للتطورات، تظل هذه الزيارة الغنية بمغزاها السياسي المباشر، ومدلولاتها الرمزية الباذخة، رسالة تاريخية ضافية، مهرها الملك بيمينه، وأودعها في خزانة الذاكرة العامة الفلسطينية، كأول وقفة وفاء عربية رسمية، وخطوة تضامن عملية من التوأم السياسي لفلسطين، تتجاوز في حد ذاتها لياقات المجاملات الدبلوماسية، وتتخطى حدود الكلام العاطفي المرسل، وتأتي في الوقت الملائم جداً، لتسند ظهر شعب ماضٍ في كفاحه المجيد نحو استكمال الشوط الطويل بعد، على درب الحرية والاستقلال الناجزين.
وأحسب أن عيون الملايين مثلي، من عرب وفلسطينيين، تعلقت بشاشة التلفزيون، وتمعنت طويلاً مفردات هذه الزيارة التي جاءت كهبة ريح إسناد مواتية، غمرت القلوب بدفئها، وأشاعت في الأوصال المتيبسة حرارة فورية كانت مفتقدة لدى شعب كثيراً ما كان يستشعر في قرارة نفسه أنه وحيد في معاركه، متروك لأقداره، مفتقر إلى دعم أشقائه وحلفائه، الأمر الذي يمكن معه فهم مضمون تلك الحفاوة البالغة، ووعي بلاغة ذلك الاستقبال الحار الذي أحاط بالضيف العزيز الكبير، وهو يعانق الرئيس أبو مازن ويشد على أيدي إخوته في القيادة الفلسطينية، ويؤكد لهم على الوقوف معهم بلا تردد.
والحق أنه ليس هناك أحد أجدر من الملك عبدالله الثاني وشعبه في إرساء هذه السابقة التضامنية الكريمة في زمن ما بعد الولادة الأممية للدولة الفلسطينية. وليس هناك أولى بهذه الوقفة الأردنية المشهودة من الشعب الذي اختلطت دماؤه هنا وهناك بسخاء، وفاضت سواقيه معاً بغزارة، من باب الواد ودير اللطرون وتل الذخيرة في القدس، إلى معركة الكرامة، وغيرها الكثير من مطارح الألم والأمل، ومشتركات الغنم والغرم، ومواقع البطولة وقوافل الشهداء، على عقود طويلة حافلة بالانتصارات والارتكاسات التي جعلت من الأردني فلسطينياً بحق، ومن الفلسطيني أردنياً مِثْلاً بِمثل.
وهكذا، تأتي هذه الزيارة المحمولة على جناح الانتصار الدبلوماسي الفلسطيني العربي الباهر في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كرسالة مفعمة بالثقة والاطمئنان إلى صحة خيار الهجوم السياسي الشامل، وسلامة النهج الواقعي الراشد في إدارة هذه المعركة التي ما كان من الممكن كسبها على خشبة المسرح الدولي، لولا هذا الخطاب الفلسطيني القابل للترجمة إلى مختلف اللغات الحية، وهذا الأداء القائم على رافعة الصمود والمقاومة والاعتدال، في مواجهة قوة احتلال غاشمة، فقدت رشدها، حتى لا نقول إنه جن جنونها، وهي تقف اليوم مدانة ووحيدة في صقيع عزلتها الموحشة.
وليس هناك من شك في أنه بقدر ما وقعت هذه الزيارة في قلوب الفلسطينيين أحسن الوقع، وأعطتهم جرعة أمل ملأت نفوسهم بالثقة المتجددة، ورسمت لكل العرب طريقاً عملية يمكن الاقتداء بها في كيفية التضامن مع الشعب الواقع في الأسر وأطواق الحصار، فإنه بالقدر نفسه ضربت هذه الزيارة ضربتها الموجعة في عقول الإسرائيليين الطافحة بالهواجس والتحسبات والقلق، وهم يرون بأم أعينهم الملك صاحب المكانة الدولية الرفيعة، والاحترام والتقدير على أوسع نطاق في الغرب كله، يصل إلى رام الله في هذا الوقت المبكر من زمن المعركة الدبلوماسية المفتوحة إلى أجل قد يكون طويلاً، كي يرمي بثقله، ويرجح الكفة الفلسطينية في الميزان الذي أخذ لتوه في التعادل التدريجي لأول مرة.
issa.alshuibi@alghad.jo
الغد