ظلت الأزمة السورية في “ثلاجة” الانتظار أشهر عديدة، حتى تتبين هوية الساكن الجديد للبيت الأبيض...أما وقد استبقى الناخب الأمريكي رئيسه الديمقراطي في موقعه لولاية ثانية، فقد كان متوقعاً أن تدخل واشنطن بقوة على الخط السوري..لكن ذلك لم يحصل، أو بالأحرى، لم يحصل بالسرعة والكثافة المنتظرتين، ولذلك عدة أسباب أهمها: الأول، أن الرئيس المُعاد انتخابه، ينوي إحداث تغييرات “جوهرية” على إدارته، وزيرة الخارجية ستغادر موقعها، وفريديدرك هوف المولج بالملف السوري، سيسلم أوراقه لإدوارد جورجيان كما يقال، والعملية برمتها قد تأخذ وقتاً سيمتد إلى شباط/ فبراير القادم، عندما يباشر الرئيس رسمياً مهمام ولايته الرئاسية الثانية.
والسبب الثاني، أن واشنطن لن تقدم على “الحسم” سياسياً أو عسكرياً في سوريا، قبل أن تتأكد بأن بدائل النظام الحالي قد أصحبت جاهزة لاستلام مقاليد الأمر والحكم...وهي وإن أعربت عن “ارتياح متحفظ” على تشكيل الائتلاف الوطني السوري الجديد، إلا أنها ما زالت تبحث في قوائم المنشقين فعلياً أو المنشقين المحتملين عن النظام، عن بدائل له...واشنطن ما عادت تثق بالإسلامين كفاية لتسليمهم زمام الأمور في سوريا بعد مصر وتونس وليبيا (جزئياً)، والأرجح أنها لا تريد لسوريا أن تصبح أفغانستان جديدة ولا صومال ثانية.
والثالث، إن واشنطن التي لم يعد خافياً على أحد، أنها تدير قناة اتصالات سرية مع طهران، بحثاُ عن “صفقة شاملة” تُحل بموجبها عدة أزمات “مركبة” تباعد ما بين العاصمتين، تعرف تمام المعرفة، أن سوريا هي واحدة من “خطوط التماس” المهمة بين البلدين، وأن معالجة الملف السوري، وإن كانت ستأخذ مساراً خاصاً بها، إلا أنه مسار شديد التلازم مع المسار الإيراني كذلك.
وفي غياب أي مبادرة ذات مغزى، فإن “الفراغ الأمريكي” في الأزمة السورية، باتت تملأه قوى إقليمية ودولية أخرى، بعضها برضا أمريكي، وبعضها الآخر ضد الرغبة والإرادة الأمريكيتين...تركيا - قطر - السعودية، تريد توظيف هذا “الفراغ” لتحقيق الحسم ميدانياً وعلى الأرض، وكان أن ترتب على ذلك اشتداد حدة المعارك في طول سوريا وعرضها، واتخاذها طابعاً نوعياً مختلفاً..سوية التخطيط والقيادة والسيطرة والتحكم، لم تعد كما كانت عليه، وهنا يُعتقد أن “غرف العمليات” المركزية في تركيا والفرعية في الداخل السوري، باتت تدار من قبل جنرالات أمريكيين وقطريين وأمريكيين وسعوديين...ثم أن عديد المقاتلين المعارضين وتدريبهم وتسليحهم، بات مختلفاً نوعياً، بدلالة النتائج “المؤثرة” التي حققها هؤلاء ميدانياً.
في المقابل، تحرص روسيا على إبقاء “مظلة دولية” تغطي النظام في دمشق، وهي ستبقى على هذا الموقف إلى أن تتضح ملامح الحل السياسي أو تتبلور عناصر “الصفقة الشاملة” حول سوريا..مثل هذه الصفقة لم تنضج شورطها بعد، ولا يستطيع أي فريق أن يُملي شروطه على المحور الآخر..جميع المفاوضات التي أجراها بوتين - لافروف مع الناتو والخليج وواشنطن وأنقرة، لم تصل إلى نتيجة محددة بعد...والأرجح أنها لن تصل إلى نتيجة قبل أن تضع “معركة دمشق الثانية” أوزارها، لصالح النظام أو المعارضة، أو من دون فوز ساحق لأي من الفريقين، لأنه سيترتب على نتائج “أم المعارك” هذه، تقرير عناصر “الصفقة” ورسم ملامح الحل النهائي.
طهران التي تخوض في دمشق، معركة الدفاع عن وجودها ودورها ومصالح في “شرق المتوسط”، ليس لديها الكثير لتقدمه لحليفها السوري على الساحة الدولية، لكنها قادرة على تقديم الكثير في “السياق الثنائي” للعلاقة مع دمشق، مال وسلاح وتدريب ومشورة، كما أنها قادرة على “صيانة” الحلف الذي تقوده وتوحيده خلف النظام، بدءاً بحلفائها في بغداد وانتهاء بمحاولات منع حماس من الاصطفاف كلياً ونهائياً في المحور الآخر.
قد تشهد التحركات السياسية والدبلوماسية الجارية بكثافة هذه الأيام حول سوريا، تبدلات في مواقف الأطراف، لكنها لن تكون “جوهرية” وذات مغزى ما لم ينقشع دخان المعارك في دمشق وحولها.حينها سيكون ممكناً إطلاق القول الفصل في هذه الأزمة، والأرجح أن ذلك لن يحصل قبل الربيع القادم.
حتى الآن، نجحت المعارضة بتوجيه ضربات مؤلمة جداً للنظام، واقتطاع مساحات واسعة من الأراضي السورية لصالحها، وسجلت تقدما ملحوظا في السيطرة على مواقع وقواعد ومطارات ذات طبيعة استراتيجية، وهي تنقل اليوم، وبنجاح أيضاَ، المعركة إلى عقر النظام في عاصمته، لكنها ما زالت مع ذلك بعيدة عن حسم المعركة، وهي تتكبد خسائر هائلة في الأرواح والعتاد..المعركة ما زالت تراوح ما بين كر وفر، وعندما تصمت المدافع على جبهات القتال في العاصمة السورية، سيبدأ الحراك السياسي بإيتاء أكله، ودائما لصالح الفريق المنتصر.
الدستور