إبراهيم سالم الطراونة .. رجل الحق والعدالة
06-12-2012 09:15 PM
عمون -
سحر المكان وألق التواصل
عندما تكون الولادة في الجنوب، وبدايات العمل في الشّمال، والدراسة الجامعية بينهما، تتعمق المحبة بين جبل شيحان وجبال عجلون وجبل الشيخ، ويتعزّز شرق الانتماء الوطنيّ والقوميّ، وتصبح جغرافية الوطن قلادة الشرفاء وأهل الحكمة وميزان العدل.
جسد القاضي إبراهيم الطراونة بجغرافية جسده، وبروحية سلوكه، وبأخلاقية ثوابته، وبرجاحة عقله وموهبته، كلّ معاني الشخصية الأردنيّة في بعدها القوميّ، وشهد له كلّ من عرفه وتعامل معه، على أنّه الرجل المناسب في المكان المناسب. فقد بذل كلّ جهد في خدمة الحقّ والعدالة على أفضل وجه، وأدّى واجبه القانونيّ بكلّ نزاهة واستقامة وأمانة. وارتبطت مسيرته الطويلة بمسيرة الحقّ والعدالة في وطنه، وفي أماكن كثيرة انتدب إليها.
حرص على استقلالية القضاء
وكان يحرص كلّ الحرص على ترسيخ استقلالية القضاء؛ حفاظاً على نزاهة وعدالة أحكام المحاكم، وإرساءالمساواة بين المواطنين، وكان شعاره "يُعطى الحقّ لصاحبه، وسالب الحقّ يجب أنْ يرضخ لحكم العدل والقانون". والقاضي بمفهومه "يجب أنْ يكون بعيداً عن الانحياز والشُبهات، وعليه أنْ يكون عند مستوى القسم؛ فأمانة العدل من أركان الإيمان، والتشبه بسنة الرسول الرسول الكريم". وكان "أبو باسل" يردّد في مجالسه مقولة القاضي المرحوم "موسى الساكت"، رئيس السلطة القضائية سابقاً، وهي: "إنّ الأمّة التي تكون لها كرامة عند نفسها ينبغي أنْ تُعنى بقضائها العناية الفائقة، وأنْ تحافظ على استقلاله ما بوسعها من جهد. كما يجب أنْ تُعنى بالمحاماة العناية الفائقة اللائقة، التي تهيّئ لرجالها الجوّ الملائم للقيام بواجبهم في الدفاع عن الحقّ..".
الولادة ومسقط الرأس
ولد المرحوم القاضي إبراهيم بن سالم الطراونة قي بلدة "الخالدية" بالقرب من مدينة الكرك عام 1929م، والده الشيخ سالم الطراونة، صاحب السمعة الطيبة، والمشورة الراجحة. وهو مرجعيّة عشائرية على مستوى الأردن. وهو شقيق المناضل المرحوم حسين باشا الطراونة زعيم المعارضة الأردنية في بداية عصر الانتداب البريطاني، وزعيم أوّل مؤتمر شعبي في الأردن عام 1927م. عاش المرحوم إبراهيم في جوّ أسريّ لا مثيل له في الألفة والمحبّة والتآخي. فكان يعيش مع "قبيلة" من الذكور والإناث، هم خير ما أنتجه في الحياة الشيخ والده. فقبيلته الأسرية تألفت من "25" فرداً، هم إخوته وأخواته، وكان نعم الأخ ونعم الشقيق، والابن البارّ بوالديه.
الدراسة وبواكير الحياة العملية
أكمل إبراهيم دراسته الثانوية في مدرسة الكرك عام 1949م، ومن أساتذته في الكرك: بكر صدقي، جميل ذياب، فريد مسنات، متري حمارنة، عودة العمارين، حسن القيسي، نصوح القادري، محمد نويران، عبد الله المدادحة، وكان الأول على صفّه في المرحلة الثانوية. وقد امتدحه الأستاذ جميل ذياب عندما قال لوالده بحضور نخبة من مشايخ الكرك: "أبشرك يا شيخ سالم بمستقبل إبراهيم، وأرجو أن تكمل دراسته الجامعية، وهو المؤهل ليكون محاميا وقاضيا إذا درس الحقوق".
وفي 12 تشرين الأوّل 1950م عُيّن معلماً في مدارس الكرك، وقد استجاب والده لنصيحة ومشورة الأستاذ جميل ذياب، فأرسله إلى دمشق لدراسة الحقوق. كان ذلك خلال تشرين الثاني 1951م. وتخرّج من الجامعة عام 1955م، باختصاص "ليسانس حقوق – دبلوم في الحقوق الخاصة".
القانون نهج وأسلوب حياة
اختار مهنة المحاماة، وأكمل تدريبه في المهنة بتاريخ 24 كانون الثاني 1958م، وبعد (16) يوماً من حصوله على لقب "الأستاذية" في المحاماة، عُيّن على ملاك وزارة العدل بالدرجة السابعة، وبوظيفة "رئيس كتّاب محكمة بداية إربد"، فبنى علاقات جيّدة مع الشخصيات الإربدية، وفي مقدمتهم دولة السيد وصفي التل، والمحامي عبد الكريم خريس، المحامي فرح إسحق، وغيرهم الكثيرون.
لم يدم طويلاً القاضي في محكمة بداية إربد، فنقل منها يوم 16 كانون الأوّل 1955م، ليُعيّن قاضياً في محكمة صلح الكورة، ومن الكورة إلى الطفيلة، فحمل حقائب سفره وأوراقه ومراجعه، ليباشر عمله الجديد في الطفيلة كقاضٍ فيها، وذلك بتاريخ 16 آب 1959م، حيث إنّه لم يكن راضيا عن هذه المناقلة. لكنّ تعويضه عن غابات الكوره كان بترفيعه إلى الدرجة السادسة. وبعد ذلك توالت المناقلات والترفيعات كلّ ذلك – كما يقول – من أجل العدل والعدالة وخدمة الوطن، وثقة ولاة الأمر وأصحاب القرار بنزاهته وحبه للعمل والناس. وفي الأوّل من آب 1960م، نقل إلى محكمة الصلح في عجلون، وفي نيسان 1960م، نقل إلى محكمة الصلح في معان، وتمّ ترفيعه إلى الدرجة الخامسة. ويقول صديقه المحامي عبد الكريم خريس في تنقلات القاضي إبراهيم" "عندما نقل الأخ إبراهيم الطراونة إلى محكمة الصلح في معان مازحته وقلت له: يبدو يا أبا باسل أن النقل من الشمال إلى الجنوب يرافقه الترفيع بالدرجة وبزيادة الراتب".
القاضي الجوّال
وفي 16 تشرين الأوّل 1961م، أُعيد إلى عجلون قاضياً للصلح، وتمّ ترفيعه إلى الدرجة الرابعة. ولمّا علم الأستاذ عبد الكريم خريس بنقله إلى عجلون، قام بزيارته، وقال له مازحاً للمرة الثانية: "يبدو يا أستاذ الترفيعات بهذه السرعة فقط لأبناء الجنوب ونحن لنا الله ...".
وجاء في أوراق القاضي إبراهيم الخاصة بأنّ الترفيع إلى الدرجة الرابعة كان ترفيعاً استثنائياً لتميّزه في عمله.
- في 20 أيّار 1965م، نقل إلى السلط وعُيّن عضواً في محكمة البداية، ورفع إلى الدرجة الثالثة بتاريخ الأوّل من تشرين الأوّل 1965م.
- وفي شباط 1966م، عُيّن قاضياً للصلح في إربد، ونقل يوم الأوّل من أيّار 1968م، إلى محكمة بداية إربد، وتمّ ترفيعه آنذاك إلى الدرجة الثانية.
- في الأوّل من أيّار 1970م، تمّ تعيينه رئيساً لمحكمة بداية الجمارك، ورفع إلى الدرجة الأولى يوم 11 تشرين الثاني 1972م، يوم انتقاله إلى محكمة الاستئناف في العاصمة عمّان.
العمل في الغربة بهاجس الوطن
أُعير لحكومة الإمارات العربية المتحدة، وعُيّن مستشاراً في وزارة العدل، وبقي في العاصمة الإماراتية "أبو ظبي" من 1 تشرين تشرين الأول 1973، لغاية 7 تشرين الأول 1978م. وبنى علاقات جيّدة مع الجالية الأردنية، وشجّعهم على تأسيس النادي الأردني للمغتربين، وكان يشاركهم الاحتفالات الوطنية بالتعاون مع أركان السفارة الأردنية. يقول رئيس الشركة الأردنية للتبريد، السيّد جمعة الجندلي: "بتشجيع من المستشار إبراهيم الطراونة، أسّسنا النادي الأردني في الشارقة، حيث العدد الأكبر من الجالية الأردنية تسكن وتقيم في الشارقة، وكان هذا النادي يشكّل الديوان والمضافة لكلّ الأردنيين، وفي مساء الخميس كان النادي يعجّ بالعائلات الأردنية، حتى حفلات الأعياد كانت مشتركة، وفي المناسبات الوطنية كان المستشار إبراهيم الطراونة يحضر من العاصمة "أبو ظبي" ويشاركنا أفراحنا، وكان موضع احترام الجميع ومرجعيتهم، بالإضافة إلى أنّه كان موضع احترام وتقدير أهل البلاد لنبله وتواضعه، ولاحترامه للقيم والعادات العربية ...".
في 7 تشرين الأول 1978م، عاد من الإعارة، وتم ترفيعه إلى الدرجة الأولى (أ) وجرى له في (أبو ظبي) حفل وداعٍ كبير، شارك فيه إضافة إلى الجالية الأردنية كبار موظفي وزارة العدل، وقُدّمت له الهدايا الكثيرة والثمينة من زملائه في وزارة العدل.
عمان مرة أخرى
وفي عمّان – بعد عودته من الإعارة –عُيّن عضواً في محكمة استئناف العاصمة عمّان.
وفي 16 كانون الأول 1978م، رُفع إلى الدرجة الخاصة، ولم يشاركه في هذه الدرجة أكثر من ثلاثة قضاة على مستوى المملكة.
-في الأول من تشرين الأول 1979م، عُيّن مفتّشاً في وزارة العدل، وظلّ هذا المنصب لغاية الأوّل من تشرين الأوّل 1985م، حيث عُيّن عضواً في محكمة التمييز في عمّان ورُفع إلى الدرجة العليا.
انتدب أثناء عمله مفتّشاً في وزارة العدل، وكيلاً لوزارة العدل، وعُيّن أيضاً عضواً في لجنة انتقاء الموظفين، وعضواً في المجلس القضائي الأعلى.
في 20 شباط 1985م، تمّ اختياره مندوباً عن الأردن، لحضور اجتماعات اللجنة القانونية الدائمة، التابعة لجامعة الدول العربية بتونس، واستمرت اللجنة باجتماعاتها حتى يوم الأوّل من آذار عام 1985م، وكان مقرّ جامعة الدول العربية آنذاك في تونس، حيث نُقل من القاهرة بعد اتفاقيّات كامب ديفد بين مصر وحكومة العدو الصهيوني..
انشغل بالسياسة والاحزاب
مارس العمل السياسي في الإطار الحزبي بانتسابه المبكّر لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقيل إنّ انتسابه لحزب البعث كان خلال دراسته الجامعية في دمشق، حيث كانت النشاطات الوطنية والقومية تزخر بها الحياة السياسية في سورية، ولم تلبث مشاركته في حمل هموم أمّته ووطنه أنْ قادته إلى الانتساب لحزب البعث، بعد أنْ تأثّر بمحاضرات قادة الحزب من أمثال مؤسس الحزب ميشيل عفلق، وأكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار، وانضمّ العديد من الطلاب الأردنيين لحزب البعث، وفي مقدمتهم عبد السلام المجالي، وعبد الله الريماوي، وسليمان الحديدي، وعبد الله نعواس، وغيرهم الكثير.
وكان إبراهيم الطراونة عضواً فاعلاً ونشطاً في العمل السريّ خلال خدمته في محافظة إربد، التي كانت مشكّلة من المحامي عبد الكريم خريس، والمحامي فرح إسحق، والأستاذ مصطفى الخصاونة، والأستاذ محمد الخطيب، والأستاذ قسيم مناور عبيدات.
تزوّج "أبو باسل" من البعثية النشطة السيّدة هدى خريس، التي كانت من الكادر القيادي للحزب والحركة النسائية في إربد والكرك.
توفي رحمه الله بتاريخ 15 كانون الثاني 1985م....
عن العرب اليوم - محمود عبيدات