"كان قد انتهى من إتمام رسالته القصيرة" الطويلة التي سطرها على وقع الهزهزة وفي مساحات الوقوف على الإشارات المرورية الحمراء، ومسافات التتابع بين سيارته والسيارات التي تسابقه على الطريق. هو أيضاً وخلال بعض مراحل الرسالة كان يسابقها.
رسالته القصيرة (SMS) حملت من المشاعر والنكات ما يشي بأنها واحدة من سلسلة رسائل (تشات)، كان يتبادلها مع أحدهم، كانت أحرف الرسالة النصية قد وضعت بعناية فائقة، زاخرة بتعبيرات الاختزال ولغة المحادثة الطارئة والجديدة في عالم التواصل المستحدث. حملت الرسائل تعبيرات إلكترونية على نحو (هههههه) وبعضاً من التشكيلات الصورية التي تحكي قصصاً وأحاسيس وتنهيدات على طريقتها؛ وجه مبتسم وآخر فاغر فاهه فرحاً وإصبع ممتدة دلالة على (اللايك) ووردة وأشياء أخرى.
كلها طبعت بمهارة فريدة، على ذلك الأتوستراد الخارجي الذي يربط بين أبوظبي ودبي، وكلها أخذت من الأحاسيس والمشاعر وردود الفعل ما أخذت من أنفاسه وتنهيداته.. حتى تلك العبارات المبهمة القادمة من الطرف الآخر، أفسحت الطريق على الغارب لخياله الخصب. كتب وشعر وروى وحكى، وتلقى ما تلقى من أحاسيس الطرف الآخر.
أتمّ الشاب الرسالة الأخيرة من سلسلة التشات (الحميم)، لكنه لم يدرك زر الإرسال Send، ولم يتسن له ذلك أبداً، فقد رفع عينه عن آخر حروف الرسالة، ليجد نفسه في حضن عربة عملاقة كانت قد خفضت من سرعتها، انتهت القصة ولم تصل الرسالة.
ذكرتني قصة الشاب الذي قضى في حادث سير مروع وهو يكتب رسائله النصية القصيرة والطويلة على امتداد شارع خارجي، لا يحتمل إلا الانتباه الكامل والعيون المفتوحة، بما قاله لي مدير دائرة السير، العميد جمال البدور، قبل أيام حول حجم حوادث السير في الأردن.
انتفضت عندما لم أجد أن السرعة هي السبب الأول فقط في حجم الحوادث كما كانت دائماً، حيث كانت الموبايلات وسوء استخدامها أثناء القيادة هي في المقدمة أيضا، في بلد تزيد نسبة استهلاك الخلوي فيه على أي نسبة أخرى في التنمية أو التعليم أو البحث العلمي أو حتى نسبة رفع أسعار المشتقات النفطية.
كانت السرعة والتجاوز الخاطئ والإشارة الحمراء والحزام والآن الموبايل في مشهد حرب الطرق ودراما الأرقام المتزايدة سنوياً من ضحايا حوادث السير في الأردن التي حصدت الآلاف، وكلفت الدولة ما يقرب من نصف مليار دينار في العام الماضي وبعضا من أشهر العام الحالي في بدايته.
هي ثوان قليلة تلك التي تستغرقنا لنموت، بقرارنا، وهي بالطبع أقل بكثير من تلك الثواني التي تأخدنا لطباعة رسالة أو تبادل أحاديث واقعية في عالم افتراضي، فنتوه بين الواقعية والافتراض، ونذهب بلا عودة.
114 ألف حادث و15 ألف مصاب، وما يقرب من ألف قتيل، الأرقام تكاد تشبه ضحايا الحروب، ولكنها حصيلة الطرق وحوادثها، ومنها النسب الأعلى التي تتراوح بين التجاوز الخاطئ واستخدام الموبايل بأساليبه كافة.
نراهم في كل لحظة وفي الشوارع المزدحمة، أولئك الغارقين في رسائلهم واتصالاتهم، وهم يغلقون المنافذ ويبطئون السير، ويمشون على وقع الأحرف الصغيرة التي لا تكاد ترى.
أنتم.. استمروا، طأطئوا رؤوسكم وابحثوا عن أحرفكم بعناية، وقودوا، اكتبوا رسائلكم.. اشعروا أنكم في بيوتكم.. صمموا الرسائل كما شئتم وابعثوا الآهات، عيثوا في الأرض رسائل نصية وتشات.. لكنكم يوماً لن تدركوا إرسالها، وسيكون زر الـSend بعيداً.. بعيداً.
hani.badri@alghad.jo