منذ قرون وقصة الحب من طرف واحد لم تغادر ساحات الرواية الاجتماعية، بل، وأن حولها، قد نُسجت آلاف القصص والطرائف، حتى بلغ الأمر بأحدهم أن خلق معشوقة في خياله، واستمر في علاقة حب معها عشر سنين فلما أن سئل عمن تكون، قال بكل ثقة أنه لم يجدْها بعد.
أما الأكثر طرافة من ذلك، أن يكون الحب من طرف واحد، بينما يقابله كره من الطرف الآخر، وأن يكون تهافتاً وتذللاً من جهة يُواجَهُ بصدود وعداء وابتعاد عن مناطق اللقيا من جهة أخرى. بل ويصل الأمر بالاثنين إلى عدم احترام متبادل.
من قبل أن تنهض العنقاء من الرماد، ومن قبل أن تصفف الغول جدائلها بزيت الكاز، وأنا، وغيري الآلاف، نطرح سؤالاً لم نتلق عنه الجواب حتى هذه اللحظة التي انتهت فيها طباعة آخر كلمة من هذا المقال! والسؤال المحيّر هذا يرقى إلى مرتبة الامتحان الذي يجري عادة لقياس مستوى الذكاء عند البشر، وهو لماذا تتحدث الحكومات مع الإخوان المسلمين بهذا "التوسل" وبهذه "الشحدة"؟ ولماذا كلما ابتعدوا عن ثوابت الدولة، وكلما مارسوا تهديداً ضد مصلحة الدولة ورموزها، كلما هرولت الحكومات، بدون أدنى إحساس بالمسؤولية والمركز الذي تحتله، نحوهم، تخطب ودّهم وتتذلل لهم.
الإخوان المسلمون لهم أجندة لا تلتقي، بالضرورة، مع أجندة جُلّ الأردنيين، لذلك ما نرى "تجمعاً" لهم، إلا ونشهد "تجمعات" تقف ضد شعاراتهم التي يُشتم منها رائحة "التخريب" ومحاولة بيع البلد، فقط لأنهم يريدون أن يحتلوا مركز الفاعلية ومركز القرار. ومن المؤسف أنهم في كل ما يذهبون إليه هو مخالف للعقل الإسلامي القادر على البناء في أحلك الظروف، وهو مخالف لتعاليم الدين الحنيف الذي رأيناها بيّنة، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً هي عمر الدعوة التي بدأها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بنى دولة الإسلام على مرتكزات الصدق والانتماء والطهر والسماحة والعدل، ولم يَدْعُ في يوم من الأيام إلى عصبية أو جهوية. وكان، عليه الصلاة والسلام، لا يلتفت من صلاته إلا وقد جمع بين يديه كل خيوط النور وأرسلها شآبيب رحمة على الناس، حتى من خالفوه كان يَدْفع نحو استيعابهم والعمل على استجلابهم بالحسنى وبالحكمة، حتى استقر له الأمر كله.
أما ما نراه من فعل الإخوان المسلمين هذه الأيام فهو فعلاً أمر عجيب، حتى أن بعضنا بدأ يشكك في ذاته. إذ بلغ بهم الأمر إلى أن يذهبوا إلى دهاليز الغرب يحرضون على البلد وعلى قيادة البلد. بل وأكثر من ذلك، فقد رفعوا عقيرتهم في الشوارع ينادون بصورة مباشرة بتغيير النظام الذي رتعوا في حضن رعايته سنين طويلة، كان يعتبرهم خلالها منفذاً إلى العقل والرؤية الراشدة. ومن أشرس ما نُقل عنهم ادعاؤهم بأن النظام كان يستغلهم لتثبيت أركانه.
الإخوان المسلمون ركبوا منابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراحوا يخاطبون مكنونات الدين في صدور الناس، وبعدها ذهبوا يوجهونهم إلى مسالك في نهايتها مصالح غير مريحة وغير صادقة وغير مقنعة، ومستوردة بالكامل من الخارج الذي فشل فيها الإخوان في إدارة الدولة التي تسلموا فيها السلطة.
هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فنرى أن أركان السلطة عندنا مرعوبون من الإخوان، فما أن تصعّد جهة العمل الإسلامي من شعاراتها، حتى تصعد الحكومات من توسلاتها لها، حتى أنها (أي السلطة) اعتبرتها مؤخراً من لوازم الحياة السياسية الأردنية، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك حين "أظهرت" رعبها من أي صدام معها. وأكثر من ذلك فقد حذّرت من أن تتحول حركة الإخوان، إن حاولنا وضعها في مكانها الصحيح، إلى حركة سريّة تعمل تحت الأرض، لأن في ذلك تدمير للدولة؟ أمر لا يكاد يصدّق.
لا أظن أن ما ذهب إليه الإخوان المسلمين ملتقياً مع الدين والمبادئ والقيم التي جاء بها الإسلام، ولا أظن أن الحكومات في رعبها وخوفها، هي ممثلة لقدرة الدولة وقوتها وما يجب أن تكون عليه، في كل المجتمعات.
ألستم معي بعد كل هذا مع شرعية أن السؤال حول هذا التصعيد الإخواني وهذا التردي السلطوي سؤال حارت العقول في الإجابة عليه، وإنه حب من طرف واحد!!