منذ ان بدأت احداث الجنوب ولا اقول بدأت لانها في نظري لم تبدأ بعد- وانا اطالع كعادتي الجرائد بدءا بالدستور في مساء كل يوم – لارتاح لمقالة السيد محمد الصبيحي وتعليقه الناضج الواعي المخلص .
اننا اصبحنا نعيش في مجتمع فسيفسائي – هبطت فيه الاخلاقيات والانتماءات فنرى المترف يعيش في ملكوته بعيدا عن البائس الغلبان – وهناك من يتلاعبون بالمال كورق الشدة ، ومنهم من تكون رؤيتهم لاوراق النقد مفاجأة ، فهناك مجتمع اليأس والاحباط الى جنبا الى جنب مع مجتمع الترفيه والحفلات الصاخبة والموائد العامرة والعبث المالي .
ان محور التغيير في كل شيء هو الانسان وليس الانظمة – واذا انحدرت الاوضاع فالانسان الواعي هو القادر وحده على دفع عجلة التغيير الى الامام لمصلحته كفرد وكأسرة وكمجتمع وكوطن .
في تفسير الاحلام " السكين " في يد الجندي قوة وفي يد المرأة حب وفي يد الكاتب قلم وفي يد المجموعة غضب – وكما قال السيد رئيس الوزراء فهناك آلام وجيوب فقر يتوجب علينا مسؤولين وشعبا معالجتها .
جيوب الفقر هذه ليست جديده ولكنها اتسعت وزادت سوءا – واهتمامات الحكومة السابقة لم تعط هذا الموضوع اية اهمية رغم ما نادى به المنادون وانذر من انذر والكل يدور في حلقة النفع الذاتي " اللهم نفسي" كما قال الشاعر :-
همامات آمال بها الكون ضائق ورنات الام بها الجو مفعم .
انها غضب الفقراء والمحبطين والبائسين ليس الا !
كثيرون من السياسيين يخطئون في مسار الامور والاحداث ، ولربما لا يدركون او انهم يستخفون بالامور الى درجة كبيرة .
عندما بدأت المظاهرات الشعبية في ايران احتجاجا على الحكومة وصفها المسؤولون بانها مظاهرات اولاد !!
قالت مارغريت تاتشر ان وحدة المانيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لن تتم الا بعد عشر سنوات واتحدت المانيا في عام واحد .
قالها السياسي البريطاني العجوزونستون تشرشل امام البرلمان عام 1935 "بان الغاندية (نسبة الى غاندي ) وكل ما تمثله سأضعها في قبضة يدي واحطمها " – حياة ورسالة غاندي للعالم – لويس فيشر – ولكن الهند استقلت بعد بضعة سنوات .
قالها شارل ديغول لوزير ماليته عندما رُفعت الضرائب بنسبة بسيطة – ما وقع الامر على الشعب ؟ فقيل له ان هناك بعض الاحتجاجات وهناك استنكار نقابي وبعض الاضرابات – فما كان من الجنرال الا ان امر وزير ماليته بتطبيق الرفع . وبعد سنوات معدودة عاد الجنرال ورفع الضريبة ثانية وسأل عن وقع الزيادة علي الشعب فانبرى وزير ماليته فرحا بانه لم تحدث اية اضطرابات او احتجاجات والهدوء يسود الاوساط السياسية والطلابية والنقابية – فما كان من الجنرال ديغول الا ان امر وزير ماليته بالغاء رفع الضريبة – لان الهدوء يسبق العاصفة –لذا فاعود واقول ان احداث الجنوب او الشمال او الوسط او اينما كان لم تبدأ بعد !
ليس بوسع احد منا ان يتحسس بكاء الباكين وفرح الفرحين وشجب الناقدين وتملق المنتفعين وصوت المخلصين – كلنا يحب هذا الوطن وكلنا يعشق امنه واستقراره وكلنا لا يرغب الا ان يموت في ترابه – ولذا ، فالجميع يتساوى في الفعل لا في القول .
لا يهمنا تشكيل لجان لترى مدى الغدر الذي الحق بالمؤسسات العامة بقدر ما يهمنا ان لا يكون ما حدث هو ريحٌ لبركان خامد .
"الشعب جائع " و " الشعب محبط" ومع هذا ، فالشعب محب لارضه ووطنه ووحدته ونظامه – فأين هذا من ذاك – كيف نمنع ابن ام قيس ان ينظر الى جاره في طبريا – كيف نمنع الفقيرالمعدم في الجنوب ان ينظر الى الغني المتخم في عمان .
اننا نرغب في مجتمع يتعايش فيه الغني والفقير – والكل سواسية امام القانون – والكل يعمل من اجل رفاهية الوطن وازدهاره .
انني اطالب الحكومة التي بدأت برنامجا اصلاحيا تحدثت عنه الكثير ولم تفعل شيئا بصدده – اين محاربة الفساد اين معالجة الترهل الاداري – اين اللجان المختصة لتقليص جيوب الفقر – اين وقف تسيب المال العام – اين وقف الهبات الكثيرة بالمال وغيره هنا وهناك – اين واين واين ؟ كل ذلك بدأت به الحكومة واخذت التأييد الشعبي الواسع في الاردن وخارج حدود الوطن والذي اخذ ينكمش شيئا فشيئا الى ان اصبح البرنامج الاصلاحي على ورق ولم يتسن له الخروج الى حيز التنفيذ.
اني اوافق دولة الرئيس بان الامر هو جيوب الفقر ووجوب معالجتها – ولكني ما رايت في برنامج الحكومة او مجلس النواب لجنة او لجانا لتعالج هذا الامر واذا كان " الطخ" كله على الحكومة واين مجلس النواب من كل ذلك – لقد صمتوا والتزموا بالهدوء والسكينة ابان معاهدة السلام والان ودورتهم الاخيرة على الابواب اخذوا يذكرون ابناء دوائرهم بانهم مع الشعب وحقه في " العيش الكريم " .
اين رجالات السياسة ورجالات المواقف امثال المرحوم عبدالحليم النمر والمرحوم هزاع المجالي والمرحوم وصفي التل – اين هم الاحرار المخلصون لهذا الوطن الذين تتعاطف قلوبهم مع بكاء كل طفل جائع في الوقت الذي تقف عقولهم مع امن هذا البلد واستقراره .
كلنا زائلون وكلنا ميتون ولو بعد حين ! ولن يبقى الا الوطن والابناء – الوحدة والكرامة – العطاء والانجاز الصدق والوطنية .
لنتدارس معا الاعراض البسيطه لهذا المرض الخطير كي نتجنب مضاعفاته المستقبلية التي اخذت تطفو على السطح – "ليحمي الله هذا البلد ولتنته ثورة الغضب من حيث لم تبدأ بعد "
تم نشر المقالة سابقا في جريدة الدستور بتاريخ 25/8/1996