هل نحن أهْلٌ للديمقراطية ؟
جواد البشيتي
29-11-2012 02:32 AM
إنَّ كثيراً من "الخِلال" و"السلبيات" خالط، وما زال، وسيظل، يخالط تجربة ثورات "الربيع العربي"؛ ولطالما سمعتُ من "المُنْتَقِدين" العبارة الآتية: "نحن شعوب لا تستحق الديمقراطية، ولن نحصل عليها أبداً؛ فإمَّا أنْ نظل خاضعين لنظام حكم دكتاتوري، فنَنْعُم، من ثمَّ، بالأمن والاستقرار، ونحفظ لمجتمعنا وحدته وتماسكه، وإمَّا أنْ نُسْقِطه لِنَسْقُط، من ثمَّ، في "الفوضى"، التي من رحمها تُوْلَد المصائب والكوارث (الاقتتال والحروب الأهلية والانقسام والتمزُّق وانعدام الأمن والاستقرار والخراب الاقتصادي..)".
وقد يشتط هؤلاء في سوء الفهم والتفسير والتعليل، فيقولون إنَّ الإنسان العربي بـ "طبيعته" ليس ديمقراطياً، ولا يمكن أنْ يكون، وإنَّ لِبُعْدِهِ (الأزلي ـ الأبدي) عن الديمقراطية، بمبادئها وقيمها وأوجهها كافة، ما يشبه "العِلَّة الجينية"، وإنَّ العرب جزء من الشَّرق الذي جُبِلَ على الاستبداد (وثمَّة ظاهرة تاريخية تسمَّى "الاستبداد الشرقي").
لا جدال في أنَّ "الإرادة الحُرَّة" للشعب (أو للأمَّة) هي الأصل والأساس في النِّظام الديمقراطي؛ لكن أليس ممكناً أنْ يُعبِّر الشعب (وعَبْر "صندوق الاقتراع" الشفَّاف والذي لا ريب في نزاهته وسلامته) عن "إرادته الحُرَّة" بما يأتي بنظام حكم منافٍ للمبادئ والقِيَم الديمقراطية، أو بما يؤسِّس لدولة ليست مِنْ جِنْس "الدولة المدنية الديمقراطية"؟
وهذا "التناقض" يمكن أنْ نراه، على وجه الخصوص، في مجتمعنا العربي (الإسلامي) فالغالبية الشعبية الانتخابية (الحُرَّة تماماً في إرادتها، وفي تصويتها) يمكن أنْ تُمَكِّن حزباً دينياً إسلامياً من الوصول إلى السلطة، ومن إحكام قبضته على الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، ومن "أسْلَمة" كل مناحي وأوجه حياة المجتمع؛ وهل من "ديمقراطي واقعي" يستطيع إنكار أنَّ غالبية الناس عندنا تُؤْمِن إيماناً لا يتزعزع بأنَّ "الإسلام هو الحل (لكل مشكلاتنا)"؟!
حتى الفشل (والفشل الذريع) الذي مُنِيَت به تجارب إسلامية عدة في الحكم، يُفْهَم "شعبياً" على أنَّه دليل (أو دليل سلبي) على أنَّ "الإسلام هو الحل"؛ فالذي فَشِل، على ما تعتقد العامَّة من المسلمين، إنَّما هو "صاحب التجربة"؛ ولقد فشل؛ لكونه أساء فَهْم الأمور، وإدارة الشؤون، بما يوافق "الإسلام الحقيقي"، الذي يشبه "جوهر" الشيء عند كانت؛ و"جوهر" الشيء، عند هذا الفيلسوف، هو أمْرٌ يستحيل على البشر إدراكه!
وأحسبُ أنَّ هذا "التناقض (أو هذا الإشكال)" لا يُحَل بعبارات من قبيل "الشعب جاهل"، أو "لا يعي مصالحه الحقيقية"، أو "مُسَيَّر من الداخل بوعيٍ لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه"، أو "يتوهَّم أنَّه حُرٌّ في إرادته واختياره"، أو "يستخذي لقوى فكرية يكفي أنْ يستخذي لها حتى يتصرف بما يجعله عدواً لدوداً لنفسه".
وأحسبُ، أيضاً، أنَّ "الشرعية" في الحكم، أو "الشرعية السياسية" على وجه العموم، ليست كمثل "الشرعية" في "الفيزياء"؛ فهي إنَّما تُسْتَمَدُّ من "الشعب بما هو عليه من وعي وثقافة وشعور وإرادة.."؛ فكما تكونوا يُولَّى عليكم؛ وليس من حكومة إلاَّ وتشبه شعبها (أو مجتمعها) مهما تعالت الأسوار بينها وبينه.
"التناقض" إنَّما يُفسَّر ويُحَل، على ما أرى، في القول الآتي: كل نظام حكم ديمقراطي يجب أنْ يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب؛ لكن ليس كل ما يَصْدُر عن "الإرادة الحُرَّة" للشعب يجب أنْ يكون نظام حكم ديمقراطي.
وأحسبُ أنَّ من الأهمية بمكان أنْ نتمثَّل معنى هذا القول حتى نُحْسِن فَهْم وتفسير كثيرٍ من "الخِلال" و"السلبيات" التي نراها في تجربة ثورات "الربيع العربي"، والتي لم تنتهِ بَعْد.
وللذين يدينون بمبادئ وقِيَم الديمقراطية (الغربية، والتي منها "العلمانية") وأنا منهم، أقول إنَّكم لا تستطيعون إسباغ (و"إسباغ" هنا بمعنى "فَرْض") نِعْمة الديمقراطية (الغربية) على مجتمعاتنا من غير أنْ تُقَوِّضوا بأنفسكم الديمقراطية نفسها؛ فماذا يبقى من الديمقراطية إذا ما سعيتم في إكراه الناس على الأخذ بمبادئها وقِيَمها (الغربية والتي تزداد عالميَّةً)؟!
"نَعَم"، وألْف "نَعَم"، لـ "الدولة المدنية الديمقراطية"، ولتتويج "الربيع العربي" بها؛ لكن هل لهذه الدولة أنْ تقوم لها قائمة في مجتمعٍ لم يَعْرف بَعْد من "الحياة المدنية والديمقراطية" إلاَّ ما هو أقرب إلى "الظِّلال" منها؟!
وهل من ديمقراطية تنشأ وتنمو وتزدهر في مجتمعٍ يخلو، أو يكاد يخلو، من "الديمقراطيين"، أو لا يزيد فيه عدد "الديمقراطيين" على عدد "مبادئ وقِيَم الديمقراطية"؟!
ودرءاً لسوء الفهم أقول إنَّ كليهما يُنمِّي الآخر؛ فـ "المجتمع المدني الديمقراطي" يُنْتِج "دولة مدنية ديمقراطية"؛ وهذه الدولة تُنْتِج مزيداً من "مدنية" و"ديمقراطية" هذا المجتمع؛ وإنَّ "تحرير" هذا "التفاعل" بين الطرفين (أيْ بين "المجتمع المدني الديمقراطي" و"الدولة المدنية الديمقراطية") هو ما ينبغي لقوى الربيع العربي أنْ تتوصَّل إليه الآن، ومن طريق إطاحة أنظمة الحكم الدكتاتورية؛ ولا بدَّ لهذه القوى من أنْ تَدَع الناس يَخْتَبِرون "أوهامهم"؛ فإنَّ خير طريقة لتخليص المرء من وَهْمٍ ما هي تَرْكه يجرِّبه ويَخْتَبِره.
لن نصل إلى "المجتمع المدني الديمقراطي"، و"الدولة المدنية الديمقراطية"، إلاَّ بعد نفاد فترة انتقالية طويلة؛ لكننا لن نصل إليهما أبداً قبل إنجاز "مهمَّة الساعة"، وهي إطاحة أنظمة الحكم الدكتاتورية؛ فلا أسوأ منها يمكن أنْ يخلفها ! .
jawad.bashiti@alarabalyawm.net
العرب اليوم