وَجعُ الزراعة .. وزراعة ُالجوع
د. محمد علي عكور
28-11-2012 11:01 PM
لطاما تغنينا بالمقولة الشهيرة التي ترسم تكاملية الأدوار للأجيال، والتي مقولها: "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون" . فالمجتمعات تبنى طبقة فوق طبقة ، وجيلا على آثار جيل، وكل ذلك مستند إلى مرجعية في البناء والكسب تكفل استمرارية دوران الانتاج والاستهلاك وفق توازن يكفل نجاح الحياة ، وعدم انهيارها في براثن الجوع والعوز والافتقار.
ولعلنا لا نجانب الحقيقة إن قررنا أن أكبر مناجم الانتاج للبشرية هي الأرض بما تحوي من خيرات وبما تنتج من مقومات الوجود، ولست هنا بصدد الحديث عمّا في الأرض من معادن ونفط وغير ذلك ، إنما ينصرف القول إلى الزراعة، تلك الصفحة التي ما فتئ الاستعمار يحرق بها لتنتهي من سفرنا ، ونتحول إلى مجموعات بشرية عائمة ، يجرفها الفتات من هنا وهناك. والنتيجة ما نراه من ذل وخنوع على عتبات السياسة نستجدي لنستمر في حياة الذل مطمئنين.
نعم أيها الإخوة ليس في الوجود أفشل من المستهلك بلا انتاج، وهذا ينسرب بحق أمتنا على جميع الصعد، وأخطرها ذلك الاستهلاك الفكري والثقافي الذي شوّه المفاهيم ، وعهّر القيم والمبادئ . والناظر في حالنا في الأردن تستفزه أسئلة قاتلة ، تدير عقله في رحى مجنونة من القلق والحيرة. فلماذا نجوع ونعاني الفقر صباح مساء، وقد جعل الله سبحانه وتعالى أرضنا منجابا لكل أصناف الخيرات. فلماذا نستورد القمح من مزابل أمريكا أزرقا عفنا، ولا نأكل من قمحنا ، وبالتالي نعلق حياتنا بفئران القمح الأمريكي، فنخضع لسياساتها صاغرين. ما الذي يمنع وزارة الزراعة من تأمين قمحنا وتحصين لقمتنا الرئيسة من ذل الحاجة ، ومن كيد الآفة التي تخالط تلك اللقمة ، حتى أصبحنا نسكن في حظيرة الأمراض.سؤال لا نجد عنه جوابا لأن الأمر مرتبط بالسياسة التي تفسد كل شيء .
ولفتة أخرى إلى ربوع بلادنا نجد الشجر الحرجي يملؤها شرقا وغربا، ونحن نعرف له بعض الفوائد ، لكننا لا نجده في حياتنا اليومية شيئا ذا قيمة، فلماذا لا تـُزرع تلك الملايين من الدونمات بالأشجار التي تجلب لنا نوعا من الغذاء، ولماذا نصرّ على تهميش كل ذي نفع، حتى في احتفال وزارة الزراعة بما يسمى عيد الشجرة ، تنطلق الاحتفالات بزراعة الأشجار الحرجية، وليست الأشجار المثمرة . لماذا لا نزرع ما يعزز اقتصادنا ويلبي حاجاتنا؟ سؤال لا نجد عنه جوابا حتى في وزارة الزراعة. لأن الأمر مرتبط بالسياسة التي تفسد كل شيء.
وثمة ملحظ مقلق لا سيما ونحن نشكو من شحّ المياه ،سواء أكانت للشرب أم للزراعة، فلماذا لا تبادر وزارة المياه بحفر الآبار الارتوازية وتسقي الأرض والإنسان ؟ وهذا سؤال طرحتُه على أحد وزراء مياهنا فلم يجد له جوابا، وأجيب عنه بأن هذا الأمر مرتبط بالسياسة التي تفسد كل شيء .
ولفتة أخرى إلى مزارعي الأردن البسطاء ، نجد الشكوى تنطلق مع الأنفاس ، ولعل أهمها بعد نقص المياة ، مأساة التسويق، فما أن تنزل محاصيلهم المتواضعة إلى السوق حتى تنتكس الأسعار، وكأن هناك من يتربص بمحاصيلهم ليفشلها وليخسروا ويتركوا الزراعة إلى الأبد، في حين أن محاصيل بعض أساطين الفساد تأكل الأسواق بأسعارها ، وهذا ما يفضُل عن الذي يصدرونه إلى الخارج، فتنتفخ جيوبهم ، ويتعرى المزارع البسيط وربما يغرق بالدين فتصبح الزراعة حلما طواه في عالم النسيان.
ولعلّي أقسو على وزارة الزراعة متسائلا ما دورها في غذاء المواطن الأردني ؟ وما دورها في إنعاش الإقتصاد ؟ هل يقتصر دورها على مكاتب تعج بالخطط والأوراق ، وعقد الندوات والمؤتمرات والإعلام الزراعي الذي لم يعد معنيا بأكثر من مباني الوزارة ؟ وأرضنا يبابٌ بعضها ، وبعضها دمرتها سياسات البناء العشوائي .
ليست أزمتنا أزمة محروقات بالقدر الذي أشغلنا ، إنما أزمتنا الحقيقية أننا أمة مستهلكة من الطراز الرفيع، ولو كنا منتجين لما زلزلتنا مسألة المحروقات، فأيّ اقتصاد وطني هذا إلى يستند إلى تسويق مشتقات نفط لم ينتجه ، وأيّ اقتصاد وطني هذا الذي يستند إلى ديون وقروض؟ . وأيّ شعب هذا الذي يعيش على قارعة الاستهلاك ، ولا يملك أمرَ ميرته ؟ وأي ّسياسات تلك التي تزرع الجوع، وتحتفل بزراعته ؟
وفي العالم من التجارب والحقائق ما يفتح عيون الوعي في عقولنا لنغيّر ونتغيّر، ولا مجال لسرد شواهد من تاريخ البشرية ، فغالبنا يعرفها . ويعرف كيف سادت دول بالزراعة . ولكني أقول : إذا بقينا كما نحن فسنزول بالهلاك والجوع ، ونعيش بموتنا ريشة ًفي مهبّ السياسة التي تفسد كل شيء.ورحم الله الشيخ الشعراوي حين قال : ما دمتَ لا تأكلُ من فأسك ، فقرارُك لن يكون من رأسك.