فايدنر: الربيع العربي فرصة لتصحيح العلاقة بين العرب والغرب
25-11-2012 05:25 PM
عمون - عمّان- استضاف منتدى الفكر العربي الكاتب والمُترجم الألماني شتيفان فايدنر، رئيس تحرير مجلة "فكر وفن"، في لقاء بالتعاون مع معهد غوتة، بعنوان "عام 2011- الحصاد الأول للربيع العربي"، بمشاركة الناقد والكاتب الأردني الأستاذ فخري صالح، رئيس جمعية النقاد الأردنيين، وإدارة الأستاذ الدكتور لبيب الخضرا، رئيس الجامعة الألمانية الأردنية، وذلك مساء الأربعاء 21/11/2012..
شتيفان فايدنر في محاضرته دعا إلى اغتنام فرصة ما أنجزه الربيع العربي في عامه الأول 2011 لتصحيح العلاقة بين العالم العربي والغرب. وقال: إذا ثبت أن عام 2011 يرسم منعطفًا للتاريخ العالمي، فإن من الحكمة، بل من الضروري أن نستغل هذه المناسبة لنُحدِث منعطفًا ذهنيًا أو فكريًا يسمح لنا بمعالجة وتصحيح خلل ذهني أو فكري تراكم بين الغرب والعالم العربي الإسلامي وظهر بوضوح منذ سنة 2001، إذا لم يكن قبل ذلك.
وأضاف: إن الخلل المذكور لدى الطرفين ترسخ واتخذ أشكالاً مختلفة أكثرها حضورًا هو انعدام الثقة المتبادلة والدائمة، المصحوب بالتشكيك وإلقاء التهم، وبلغ ذلك ذروته في عام 2001 عقب أحداث سبتمبر 2001 وما تلاها من السنين، وتم تسعيره من خلال الجهل وفقدان المعلومات، أو حتى المعلومات الخاطئة قصدًا والأحكام المسبقة لدى الطرفين. وزاد من ذلك التوقعات المُبالَغ بها والغشاوة الأيديولوجية بما أدى إلى التصعيد المتبادَل والمتزايد.
وأوضح فايدنر أن مفاجأة ثورات الربيع العربي قدمت لنا فرصة لم نكن نتوقعها للتغلب على انعدام الثقة ذاك. لكن ما يزال يعتري الغرب الخوف والشك القديمين من خلال التساؤل عما سيقي هذا الغرب ويخفف عنه سيل المهجّرين، وتقديم المساعدات الاقتصادية، ونشوب أزمات النفط، وحكومات الإسلام الراديكالي، وتلك الحروب الأهلية التي لا مفرّ من التورط فيها. لكن في المقابل، حتى لو كان كل خوف هو خوف من المستقبل، فإنه يظل أسير الماضي، ونتيجة عشرات كثيرة من السنين مورِسَت فيها سياسة اغترابية، سواء من الجانب العربي أو الجانب الغربي في التعامل مع ذلك الخوف.
وقال: إننا ربما نحتاج من أجل تحرير رؤيتنا إلى تحليل نفسي بين الثقافتين الغربية والعربية، بعد أن فاجأ الثوريون العرب أكثر المراقبين الغربيين، خصوصًا أولئك الناقدين للإسلام عندما أعلن هؤلاء الثوار تبنيهم لقيم تكاد تكون غربية تمامًا، أو أنها تنتمي لمنظومة القيم الكونية، إذا اعتبرنا القيم الغربية كونية إلى حدٍّ ما ويمكن لأي واحد في الغرب بالذات أن يكتبها على راياته؛ مؤكدًا أن انعدام الثقة العربي تجاه الغرب لم يكن يستند إلى محاججة إسلامية أو ذات خصوصية ثقافية من أي نوع؛ بقدر ما كان ناجمًا عن التجربة المتكررة لازدواجية الخطاب الغربي. فالغرب – حسب تعبير فايدنر – ينتهك هو نفسه القيم التي يعلنها ويدعو إليها على الملأ ، وخصوصًا لدى التعامل مع المسلمين والعالم الإسلامي، إما بشكل مباشر، كما في أبو غريب أو غوانتانامو، أو في التعامل مع اللاجئين العرب أو قطاع غزة، أو في التعامل مع الحكام الدكتاتوريين الذين يدوسون على القيم الغربية بشكلٍ فاضح.
وقال: إن ازدواجية المعايير في عَلاقة الغرب مع العالم العربي الإسلامي تنسحب على المجتمع الغربي نفسه. "ونحن في الغرب نضر أنفسنا بأيدينا"، وتحدث في هذا المجال عن عددٍ من الأمثلة للتناقض بين سياسات بعض حكومات الدول الغربية ومجتمعاتها المدنية، أو ما وصفه بالتناقض بين السلوك الرسمي على مستوى السياسة العليا الذي يمثل الواقع السياسي والمنفعية المباشرة، ولدى القوى الناعمة غير البارزة للمستقلين عن الحكومة أو المنظمات نصف الحكومية المسؤولة عن الأخلاق.
وأشار فايدنر إلى أنه من البدهي أن تفقد سياسة فيها هذا الفصل بين الأخلاق والأفعال صدقيتها، مما يُعد نقطة ضعف كبيرة ومُحرِجة في الوقت نفسه. وأضاف: إن تيار نقد الإسلام في الغرب يعيد صهر الأخلاق والسياسة في رؤية موحدة، لكنه يدفع ثمنًا باهظًا لامتلاكه هذه النظرة شديدة التشويه للإسلام وللتطورات العالمية كلّها. وفي الوقت الذي يستند فيه انعدام الثقة من جهة الغرب على الشكوك المرتبطة بالإسلام، فإن الإسلام على ما يبدو لا يؤدي دورًا كبيرًا في النقد الذي يوجهه المواطنون العرب للغرب، باستثناءات قليلة ليس لها أية قيمة تمثيلية.
وانتقد المُحاضِر الألماني هذه النظرة الغربية قائلاً: إن اعتبار الإسلام خصمًا جعلنا نحن في الغرب لا نرى بشكلٍ كافٍ أن المقاومة ذات اللون الإسلامي تعلن أنها تدافع عن أهداف يمكن أن نتماهى معها، مثل احترام حقوق الناس، والمشاركة السياسية والاقتصادية والثقافية، ودولة القانون، والحكم الصالح ... إلخ. كما أن أصحاب التوجه الإسلامي التقليدي يرفعون هذه المطالب، وهي علامة جيدة حتى لو كانت المخاوف مبررة بأن هذه القوى بمجرد وصولها للسلطة ستحرم خصومها السياسيين من الحقوق التي طالبت هي بها في السابق. كما أن هذه الازدواجية ليست محصورة بالقوى الإسلامية، بل هي موجودة لدى قوى أخرى ذات ماضٍ ثوري ومن كل لون سياسي غيرها.
ودعا فايدنر إلى عدم المقامرة بالفرص التي يتيحها العالم العربي للغرب من تحقُّق دولة القانون والديمقراطية، وذلك على أرضية ارتيابية سخيفة ورخيصة يشجعها تيار نقد الإسلام أو مخاوف قصيرة النظر بشأن أسعار النفط، لأن في ذلك مجازفةً بثورات الربيع العربي بما يؤدي بها إلى الفشل أو أن تضل طريقها قبل أن يبلغ التغيير مرحلة اللاعودة، ما سينتج عقودًا أخرى من الركود في السياسة العالمية ومزيدًا من التصلب الأيديولوجي.
من جهته، قدم الناقد والكاتب الأردني فخري صالح وجهة نظر عربية في حصاد العام الأول للربيع العربي؛ مشيرًا إلى أنه لا يبدو من الأحداث الجارية أن الثورات والانتفاضات العربية حققت النتائج المأمولة التي قامت من أجلها. وأضاف: إن ما يبدو واضحًا في الحقيقة هو أن العالم العربي دخل في حالة من عدم الاستقرار وتنازع الشرعيات، وغموض المستقبل. فالنظام القديم لم يرحل ولم تتقوض أركانه بالفعل، كما أننا لا نستطيع القول إن نظامًا سياسيًا عربيًا جديدًا مختلفا بدأ في التشكّل.
واعتبر فخري صالح أن النظام القديم يعيد ترتيب أوراقه، حتى في غباب رأسه ورموزه، أو أنه يصارع للبقاء: بالحديد والنار، أو بالدهاء والحيلة، أو بتقديم تنازل هنا أو تنازل هناك، في محاولة لتجنب خسارة كاملة. وعزا ذلك إلى عوامل داخلية تتصل بطبيعة النظام العربي، ووجوهه المحلية والإقليمية، كما تتصل بلعبة الأمم، وعاملي النفط وإسرائيل، وهي جميعا تؤثر سلبًا في عملية انتقال الشعوب العربية إلى ما بعد الانتفاضات أو ما بعد الثورات، للتوصل إلى عقد سياسي اجتماعي جديد يقوم بين السلطة والشعب.
وقال: لا يعني أن العالم العربي ما يزال مقيمًا في ماضي النظام العربي وآليات اشتغاله. فثمة نقلة واسعة حدثت سوف تؤثر مستقبلاً في الحياة السياسية الاجتماعية العربية، وتعيد السلطة إلى الناس بحيث يكون الحاكم من الناس وفي خدمتهم، موظفًا مدنيًا civil servant نحكم عليه من خلال تطبيقه القانون والتزامه بالعقد الاجتماعي المتفق عليه، لا مستبدًا، عادلاً أو ظالمًا، كما جرت العادة في تصنيف الحاكم العربي على مدار عصور وعصور.
واعتبر أن الثورات والانتفاضات العربية حققت انعطافة جذرية على صعيد السياسة والمجتمع، خصوصا فيما يتعلق بمفهوم تداول السلطة والديموقراطية السياسية ومسألة الحريات، وإن لم ترسخ بعد هذه المفاهيم، لكن ما تحقق هو أن هذه العناوين صارت أساسية في الحياة السياسية العربية، ولا مجال لتجاوزها؛ داعيًا إلى التحشيد حولها والتمسك بها. ما يحمي من المصير المفجع للثورات، والبناء على النتائج التي أدى إليها الحراك الجماهيري خلال العامين السابق والحالي اللذين نقلا العالم العربي من ضفة إلى ضفة، من زمان الاستبداد إلى وعد الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وحذر فخري صالح من مشكلة عدم الإيمان بالتراكم، وبالبناء على ما سبق، وقال: إننا نظن أن الأشياء تتبدل في لحظة، بين ليلة وضحاها. المشكلة أننا نريد حرق المراحل والحصول على الثمرة قبل مباشرة الزرع. لعل ذلك هو السبب الكامن وراء هذا اليأس المقيم من أن ما حصل تكاد تذروه الرياح، فلا شيء تغير سوى بعض الوجوه والمسميات، والنظام العربي القديم مازال صامدًا لم يتغير ولم تتبدل أفعاله. لكن الحقيقة تقيم في مكان آخر: في العمل المستمر، في أن يبقي العرب عيونهم مفتوحة على المستقبل، ويتمسكوا بالعناوين التي قاموا من أجل تحقيقها بالانتفاضات والثورات. دون ذلك سيتحول الربيع العربي إلى خريف قارس، وتصبح رياح التغيير رياحا سموما تذرو العناوين والمصائر، وتقضي على البلاد والعباد.
ودون الإيمان بدرس التاريخ سوف يتردّى حال الجماعات والشعوب والأمم من قاع إلى قاع، ولن يحدث أي تغيير نحو الأفضل. وإن التراكم هو الذي يكفل التقدم إلى الأمام، رغم أن التاريخ ماكر ويتسم بعودات وانتكاسات تفرض نفسها على حركة التقدم. سوف يعاني الناس في الفترات الانتقالية من الحيرة والارتباك والبحث عن صيغ العيش التي يتوافقون عليها، كما أنهم سيعانون من سوء الأوضاع الاقتصادية والبلبلة السياسية وتناقض البرامج السياسية، لأنهم طالعون من بئر الطغيان العميقة، يتصارعون فيما بينهم للعثور على شكل النظام السياسي الذي يعتقدون أنه الأمثل. تلك هي ضريبة الثورات والتحولات العاصفة التي تضرب المجتمعات وتغيّر واقعها السياسي والاجتماعي والثقافي، كما تغير الأفكار والقناعات. ومع ذلك، فلا شك أن الجميع سوف يتغيرون: اليمين واليسار، الاشتراكيون والليبرليون والسلفيون والإسلاميون الوسطيون والمتطرفون. سيحصل ذلك بغض النظر عن اتجاهات هذا التغير.
وعبر فخري صالح عن تفاؤله بوصفه مثقفًا عربيًا بأن ذلك سيكون لصالح المجتمعات العربية في المستقبل، لأن العطالة التاريخية، وتردي العالم العربي من قاع إلى قاع، خلال السنوات الماضية، عطّل عجلة التقدم في العالم العربي، وأفسد الحياة السياسية والثقافية، وأعاق فرص النمو الاقتصادي، وشوه البنى الاجتماعية، وأحلّ فئات طفيلية فاسدة محل قوى الإنتاج الحقيقية في المجتمع، فتضخمت الثروات في أيدي فئة قليلة من الناس فيما رزحت قطاعات واسعة في المجتمع تحت خط الفقر، وانحدر الحال بالطبقة الوسطى حتى تآكلت وكادت تختفي. كل ذلك أحدث تشوهات تهدد لا المجتمعات فقط بل تهدد وجود الدول نفسها التي أوهمت الناس أنها قامت على أساس من التعاقد الاجتماعي الذي يحفظ كيان الدولة ويحقق استقرار المجتمعات في الوقت نفسه.
ودعا إلى تكوين بصيرة تاريخية لمختلف التيارات والمذاهب والقوى بحيث تكون مكونات للوصول إلى ديموقراطيات توافقية تأخذ في الحسبان الحاجات السياسية والثقافية للمجتمعات، وواقع السياسة الدولية، وضرورة التوصل إلى نوع من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يضمن حقوق جميع فئات المجتمع؛ محذرًا من نذر واضحة تشير إلى أن الخاسر الأكبر، في هذه التحولات التي عصفت بالعالم العربي، هو القيم والأيقونات التي قامت الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الجماهيرية من أجل تحقيقها؛ أي الحريات العامة والفردية بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وغلق المنابر الصحفية وحبس الصحفيين، والحكم على المثقفين والفنانين بالسجن بدعاوى تعديهم على الحرمات الدينية أو الوطنية أو التقاليد المرعية في مجتمعاتهم. كما تتجلى في طرح مشاريع قوانين لتقييد الصحافة وتكميم فمها، أو من خلال الهجوم على المسارح ودور العرض السينمائي والندوات الثقافية بالسيوف والبلطات، في ظاهرة تثير الرعب حقا من إمكانية دخول العالم العربي حالة من الانفلات وجنون التطرف والاعتقاد بامتلاك الحقيقة.
لكنه اعتبر أن ذلك لا ينبغي أن يتحول كمتوقع إلى واقع صلد قاس نستسلم له ونخافه، أو حتى يدافع عنه البعض بداعي تحقيق الاستقرار أو طلب السلامة. فهذه في الحقيقة خيانه لكل ما بشر به الربيع العربي من أفق واسع للحريات العامة والفردية، وتحرر من قيود الخوف وسلاسل العبودية.
ودار في ختام اللقاء نقاش موسع بين الحضور والمتحدثين حول طروحاتهما.