أطرف ما في المشهد السياسي والإعلامي العربي الحالي هي القراءة التي يتحفنا بها كتّاب وإعلاميون وسياسيون يهللون ويزغردون وينتشون عندما يرون أي حالة فوضى أو عنف أو اختلافات داخل الأنظمة الديمقراطية الجديدة، كما يحدث في مصر وتونس والمغرب وليبيا، أو تلك التي تسير في هذه الركاب، كما هي الحال في سورية!
الرواية التي تطير بها تلك الصحف والفضائيات أو أحاديث المسؤولين من هذه "الملّة"؛ ألم نقل لكم؟! تريدون الديمقراطية، هذه هي النتيجة؟ الإخوان والسلفيون سيحكمونكم باسم الإله! أو ستنعدم نعمة الأمن والاستقرار، وستقفون على أطلال الأيام الخوالي.
هذه الحملة الدعائية ليست بجديدة، فهي ما قبل الثورة (إما نحن أو الفوضى والجوع)، من الأنظمة نفسها، وبدأ التيار الرسمي العربي، الذي يخشى من وصول رياح التغيير إليه، يعزف عليها منذ انتصار التجارب الجديدة، فيتم تضخيم أي اشتباكات تقع في تونس وخلافات في مصر، أو احتجاجات في المغرب، ويصل الأمر إلى درجة أكثر تطوّراً باحتضان أحد أعمدة النظام المصري السابق أحمد شفيق، ودعمه ليفوز، واستقباله والاحتفاء به عندما يخسر في الانتخابات، بل وبدعم كل ما يمتّ إلى النظام القديم في الأنظمة الديمقراطية، من سياسيين وصحف ومجلات وتيارات.
المفارقة تبدو أكثر وضوحاً وهزليةً في الموقف من الثورة السورية؛ فهذا التيار الرسمي، بسبب العداء الأيديولوجي والسياسي والتاريخي المزمن مع هذا النظام، يقف أغلبه مع دعم الثورة السورية؛ لكنه في الوقت نفسه يستثمر المشهد السوري، ليخوّف من الثورة وتداعياتها ونتائجها، ويذكّر بنعمة الاستقرار والأمن في تلك الدول!
ما شهده ميدان التحرير يوم الجمعة، والتداعيات المستمرة ضد الإعلان الرئاسي الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، نزل على هذا التيار كأنّه "هدية من السماء"!
بغض الطرف عن الإعلان الدستوري، وما يمكن أن يثار حوله من اختلاف وخلافات، وما له وما عليه، إلاّ أنّه لا يشير بأيّ حال من الأحوال إلى أنّ الجماهير تطالب بعودة حسني مبارك أو النظام القديم، أو تحنّ إليه! كما يهمس مسؤولون عرب اليوم!
لو فكّروا قليلاً بهذه الحملة الإعلامية والسياسية الهائلة سيجدون أنّ النتيجة عدمية! وهي أنّنا شعوب لا تستحق الديمقراطية، ولا بد من استمرار الأنظمة الدكتاتورية والحكم المستبد، والحفاظ على النظام القديم، لأنّ البديل هو الصراع الداخلي أو الإخوان أو الحروب الأهلية؟
هي نتيجة مضحكة فعلاً، وتثير الأسى! إذاً لماذا تثور الشعوب العربية اليوم، ولماذا دفعت الفاتورة الباهظة للثورات من دماء أبنائها وشبابها؟! وكيف تمكّنت هذه الشعوب قبل كل شيء من كسر ما هو أخطر من حديد الأمن والعسكر وجبروت السلطة؛ ألا وهي ثقافة الخوف التي عشّعشت في قلوب وعقول الشعوب العربية والمسلمة مئات من القرون، مدعومة ومسنودة بفتاوى فقهية وأمثال شعبية تكرّس الحاكم بوصفه إلها لا يسأل عما يفعل وهم يسألون!
من كان يتوقع أن تكون مسيرة الديمقراطية في العالم العربي منتظمة مفروشة بالسجاد الأحمر واهم، ولا يقرأ التاريخ ولم يطلع على الثورات الديمقراطية في العالم، التي شهدت تحولات ومراحل حتى استقرت على النظام الديمقراطي الحالي، وما تزال العملية مستمرة.
التحدي أمام الديمقراطية يتمثل اليوم في الاستقطاب الإسلامي العلماني، والمطلوب لتجاوزه تدشين مشروع وطني أوسع من هذه الخلافات الأيديولوجية، ومهما وصلت الاختلافات والانقسامات، فما هو مؤكّد أنّ ثقافة تكريس الاستبداد، التي شكّلت العمود الفقري لصناعة الدكتاتور في العالم العربي، قد دفنت تحت أقدام الثوّار، فلا رجعة، ولا تفرحوا كثيراً، لأنّ الطريق إلى المستقبل باتجاه واحد.. الديمقراطية. وما الجمهور العريض الذي يقف ضد الإعلان الدستوري اليوم ويدشّن المعارضة للرئيس مرسي، إلاّ تأكيد على ذلك؛ فهو يخرج لأنّه يريد حماية الديمقراطية ويخشى عليها، لا لعودة النظام القديم، فهو إصرار على هذا الطريق وليس تحويلة للوراء!
الغد