بالسياسي لا بالأمني .. !!
راكان السعايدة
24-11-2012 04:44 PM
بالتجربة، أثبت الربيع العربي أن الخيار الأمني ليس خيارا موفقا ومنطقا سليما لاحتواء تفاعلات شارع يدعو لإصلاح شامل، وأن دولا صعّدت خيار الأمن دفعت ثمنا باهظا انتهى إلى زوال أنظمتها.
ليس أدل على ذلك من مبتدأ وخبر، مسار الأحداث في تونس ومصر وليبيا واليمن والآن سوريا، لجأت أنظمتها إلى الأسلوب الأمني، فتدفق الدم في عواصمها ومدنها ليغرق قادتها وينتهى بهم المطاف، إما طردا أو سجنا أو قتلا.
وبالتجربة، أيضا، أثبت الربيع العربي أن الخيار السياسي يمكن أن يكون خيارا موفقا ومنطقا سليما لاحتواء تفاعلات الشارع، وأن الدول التي صعّدت خيار الساسية تجاوزت أزمتها وفي أقله جعلت تفاعلاتها داخل النظام لا منقضّة عليه.
دليل ذلك المغرب التي ادرك حاكمها أن خياره الأمني ينتج مزيدا من الرفض فقدم منطق السياسي على الأمني، أتيا بالمعارضة وولاّها الحكم متجنبا صداما كان يمكن أن يذهب به أدراج الرياح.
هذان الخياران، نظريا وواقعيا، حيّان وماثلان للعيان، أو هكذا يفترض، أمام طبقة الحكم في الأردن، وأن المنطق السليم والقراءة الموضوعية يفترض بها أن أدت بهذه الطبقة إلى يقين وإدراك أن المقاربة الأمنية فشلت وأن المقاربة السياسية "الترقيعية" فشلت أيضا.
ما الحال الآن..؟
إن الالتباس والفوضى حيال أي خيارات سياسية وأمنية يمكن لطبقة الحكم أن تعتمدها منذ انطلاقة حراك ذيبان وتمدده، شعبيا وحزبيا، أدت إلى تأخر واضح في التقاط اللحظة لاحتواء المشهد- المتداعي- بمعالجات سياسية عميقة ومقنعة للشارع.
ومنذ بدء الحراك كان على طبقة الحكم الاقتناع بأن الحالة الوطنية المتأزمة في تصاعد (...) لكنها طبقة بقيت تقلل من قيمة الحالة واثرها.
وانخرطت في إنكار مفرط، وغير مفهوم، أضاع البوصلة وأفقدها القدرة على المفاضلة بين الخيارات ولم تدرك أنه لا يمكن احتواء هذا التصاعد من غير استجابات مقنعة.
هذه المراوحة بين الإنكار وتفوق الخيار الأمني على السياسي، طغت على المشهد, والقت بظلالها على القرارات الرئيسية إلى أن رفعت الحكومة الحالية أسعار المحروقات، ذلك القرار الذي أجج الشارع ليبلغ مناطق كانت ساكنة وتراقب الحالة الوطنية وتصاعدها ولم تنخرط في حراكه.
لو صح ما تقوله طبقة الحكم من أنها كانت تتوقع حجم ردة الفعل الشعبية، وهذا محل شك، فهي حتما لم تتوقع أن تتجاوز الشعارات السقف وتذهب إلى مديات لم تتحسب لها.
رفع البعض شعارات على رغم من أنها ليست أصيلة في وعي الحراك، واتت على هامشه لا في صلبه، إلا أنه خطأ، غير محسوب، استثمره خصوم الحراك للتقليل من زخمه، وتاليا خلق انطباع أن مستواه ومنسوبه في تراجع.
فهل تراجع الحراك فعلا..؟
نظريا، حركة الشارع في اليومين الأولين لرفع الأسعار كانت عالية الوتيرة، ومن ثم ما لبثت أن هدأت نسبيا، بنتيجة عاملين أساسيين، الأول، شعار الإسقاط .. والآخر، عمليات تخريب ونهب محدود حدثت في مناطق ساخنة، تبرأ منها الحراك ورفضها.
وهما عاملان أديا إلى انقضاض منهجي على الحراك، ووضع فيه الناس أمام خيار من اثنين، أحلاهما مر، إما الاستقرار والتعايش مع رفع الإسعار وإما الفوضى، فكان أن فضل البعض الخيار الأخير من غير تدقيق في التفاصيل والمعطيات.
إن من الخطأ، ويمكن القول الخطيئة، التوهم أن الحراك في طريقه إلى الانتهاء أو أنه أخذ يستسلم شيئا فشيئا، بل هو ما يزال متحركاً وفاعلاً وفي الأثناء يعيد التقييم والتدقيق لمعرفة أين أخطأ وأين أصاب لتفويت فرصة عزله شعبيا.
ومهما بلغ مستوى إنكار وعناد طبقة الحكم، فهو اليوم أكثر من قبل، مطالب بإجابة سؤالات جوهرية ومفصلية، هل الناس راضون عن واقعهم، وهل ترك قرار رفع الأسعار وتداعياته الأمنية والسياسية أثرا في أنفسهم بحيث "أتسع الخرق على الراتق"..؟
وأن تسأل نفسها، ماذا لو سد الحراك مداخل الأنقضاض عليه، وفي لحظة ما ولسبب ما تصاعد الموقف في الشارع ولم تجد الحكومة من الذرائع ما تستخدمه للتأليب على الحراك، فما مدى تفاعل الشارع معه، وهو شارع لم يشعر بعد بكامل التداعيات الكارثية لرفع الأسعار؟
إن تلك تساؤلات ذات أهمية كبيرة وتزداد أهميتها كلما مست مستويات قرار أعلى، لأن الفجوة النفسية المتعاظمة بين الناس وطبقة محددة في الحكم تنذر بالأسوأ.
نعم، لا مخرج من المأزق الوطني المتعاظم والتباعد النفسي المضمر بين الناس وطبقة الحكم إلاّ بإصلاحات سياسية واقتصادية ذات قيمة ووزن يقنع الناس أن الأمور تسير في الطريق الصحيح.. ولا سبيل إلى الاستقرار الحقيقي إذ بقي الخيار الأمني على حساب السياسي أداة الاحتواء.
لا تتوهموا الهدوء، فالنار تحت الرماد..!