الانقسامات السياسية وتعدد المواقف والآراء أمر طبيعي في مجتمع حي وبلد يتمتع بالحرية ، وهي ظاهرة صحية شريطة إلا يؤدي ذلك إلى التمترس وإتهام الطرف الآخر وتخوينه.
لنفرض أن شخصاً ما يأخذ كل معلوماته السياسـية من فضائية الجزيرة ، وأن زميلاً له يأخذ كل معلوماته من فضائية المنار ، فالنتيجة معروفة وهي أن كلاً منهما يعيش في عالم خاص به.
الأول يعتقد أن في سوريا ثورة شعبية من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة ، وأن فيها نظاماً طائفياً قاسياً ومتسلطاً يقتل شعبه ويهدم الاحياء السكنية على رؤوس ساكنيها. والثاني يعتقد أن سـوريا محور المقاومة والممانعة ، وأنها ضحية مؤامرة دولية ، وأن عصابات إرهابية مسلحة تحاول تدمير سوريا وإنهاء دورها القومي لخدمة إسرائيل ، وهي مدعومة بالمال والسلاح والإعلام من أميركا وفرنسا وقطر وتركيا.
ليست هناك أرض مشتركة ينطلق منها الإثنان ، فكل منهما أغلق عقله باتجاه واحد ، وكل فريق يرى أن الفريق الآخر مصاب بالعمى فلا يرى الحقائق الناصعة.
من يقرأ الصحف اليومية يستطيع بسهولة أن يسمي فريقين من الكتـّاب كلاً منهما مصاب بالعمى ، فلا يرى الوجـه الآخر من الحقائق كما هي على الأرض ، بل يتشبث بصورة واحدة يعززها كل يوم بالإقبال على وسائل الإعلام التي تحمل وجهة نظره ، ومقاطعة الوسائل الأخرى التي تحمل وجهة نظر مختلفة أو تدّعي الحياد.
من حسن الحظ أن رؤساء التحرير ليسوا من العميان ، فهم يفسحون المجال للفريقين. وحتى تاريخه لم يكسب أحدهما المعركة ، لأن للأغلبية الشعبية رأياً آخر فهي ترى الأشياء كما هي ، وتجد أنها في الغالب صراع بين السيء والأسوأ.
هذا الاستقطاب الموجع يجمد الامور ، ويسبب قدراً من التأرجح والجمود ، فقوة أحد الجانبين التي تضغط باتجاه ما ، تعادلها قوة الجانب الآخر التي تضغط بالاتجاه المعاكس ، فتكون المحصلة صفراً.
في مجتمعنا حالات استقطاب عديدة وثنائيات متعددة تمثل الوضع الطبيعي في مجتمع ديناميكي: يمين ويسار ، محافظون وليبراليون ، أغنياء وفقراء ، قطاع عام وقطاع خاص ، موالون ومعارضون ، أردنيون وفلسطينيون ، مسلمون ومسيحيون ، إلى آخره,
وهي تمثل تفاعلاً صحياً يمكن أن يخدم المجتمع شريطة أن يظل في نطاق الاختلاف وليس الخلاف ، وأن لا تتحول الثنائيات إلى مواقف عقائدية جامدة ، تغلق فيها الأطراف عقولها ، فلا ترى أن لقطعة العملة وجهاً آخر.
الراي