وجع على طرفي الجسر..
"كلما اتسعت الرؤية..ضاقت العبارة"..
كنا قد وصلنا الى رام الله وهي تتأهب لغضب, حذرنا الأخوة من أن المدينة ستنتفضُ غداً حُرقة على غزة, "فلا داعي للخروج الى شوارعها"..
بعد ساعات قليلة من وصولنا لمتابعة فعالية إعلامية عربية, تختبئ وراء الإعلام كواجهة,فيما هي فقط..تحرك ذكي لكسر الحصار على فلسطين وأبناءها ولتعزيز مبدأ زيارة السجين لا السجان , بعد ساعات قليلة, جاءت الأنباء من عمان بقرار الحكومة رفع الدعم,وهوت قلوبنا خوفاً على البلد’ فالأخبار تتسارع وموجة الاحتجاج تأخذ أشكالاً مرعبة, لم أكن أتوقع أن أراها يوماً في "بلد الأمن والأمان" والمواطن الوادع.
وفي عالم مدجج بعيون الأعلام في كل مكان ,تصبح الرؤية أكثر وضوحاً كلما ابتعدنا..تتسع الرؤية, وتتكثف كل الأخبار البغيضة في بقعة ضوء على شاشة كمبيوترك, وتكاد تختفي الأخبار التي تعيد الأدرنالين إلى مستوياته الطبيعية, وضغط الدم إلى عادته, تَسْوَدُ الدنيا مرة واحدة..!!
أصبحت كل الأشياء القادمة على رأس دبوس, وبات توارد الأخبار المزعجة كنوبات الصرع المتلاحقة والتي لا مجال لمنعها إلا بإغلاق العينين واستنشاق نفس يطول , حتى تهدأ النفس.
صديقنا هاني القدسي يسأل ضرار, هل ستهدأ الأمور, كان يدرك بداخله أن أحداً لا يمتلك الإجابة, لكنه مثلنا كان يبحث عن إجابة من حجم ونوع ولون محدد, تعيد له الروح ,وتهدأ من هلعه, لم يرى الإجابة حتى في وجوهنا التي كانت تمثل الرزانة بركاكة.
أربعة أيام جافى النوم عيوننا إلا لماماً, كنا نرى في كوابيس الدقائق المعدودة من الغفو المحفوف بقلق الصحو, شوارع القاهرة وعشوائياتها, حوادث الاعتداءات في غياب الامن بين القاهرة والإسكندرية, ترآت لي لوهلة مشاهد مرعبة رأيتها في اماكن اخرى من العالم العربي , وانتابتني صور البلطجة التي حكمت شوارع القاهرة وطرابلس, وأخذتني كوابيسي إلى الزعتري حين صورت فيلماً عن بشر كانوا يوماً أسياداً في قراهم الجنوبية وضياعهم الوفيرة..
في الطريق من رام الله إلى عمان اكتشفت كم نحن مسكونين بعشق عمان, وكم نرمي بدلالنا عليها حتى يكاد دلعنا يصبح جفاءً وَتَعَوداً وامتلاكا لمعنى لا ندرك قيمته إلا بفقدانه..
في رام الله اكتشفنا أيضاً كم هي محبوبة عمان للآخرين وكم يحسدوننا عليها فهي كما قال أبو رامي جوهرة ..عليكم أن تعرفوا أن كنوز الدنيا لا تعادلها..
أربعة أيام ثقال, تحدثت فيها مئات المرات عبر الهاتف, لا تأكد أن الأهل والناس وأحياء عمان وشوارعها وأعمدة نورها ومحالها ووسط بلدها وقدرتها السحرية على احتضان أبناءها من كل لون, ما زالت بخير..
بقيت الأخبار تتراشق من ميادين عمان وأخواتها, وسقوف الغضب التي طالت استقرارنا, ومواقع الأخبار الالكترونية التي تتسابق في المانشيتات التي تزيدنا هلعاً, وظلت الكوابيس البغيضة تلقي بظلالها علينا, فيما أخبارٌ أخرى تدخل على الخط لتكمل تقطيع أوصالنا..!!
ونحن في رام الله بدأت إسرائيل (عمود سحابها) في غزة, عمليتها العسكرية التي لم تحمل إلا سحاباً مثقلاً بالبغض في موسم الذبح الفلسطيني الذي يسبق الانتخابات الإسرائيلية عادةً.
ارتفعت مستويات الأدرينالين إلى مستوياته القياسية, وسقطت صواريخ حماس جنوبي القدس, ورأينا أن وجوهاً متعبة تحمل كل هذا الغضب في شوارع رام الله وازقتها, تعجز عن أمتصاص هلعنا, وبدأت اتصالات الاصدقاء من عمان بدورها لتطمأن علينا في فلسطين ..ضحكنا لهذه المفارقات العجيبة فغادرنا وحملنا معنا وجعنا على موعد مع عمان بعد الكابوس.
لم تعد الروح إلا عندما تراءت لنا مرج الحمام كاشفة نفسها بشكل استعراضي مسرحي حين تتلقفك عند نهاية الطلوع الذي يسلمك إلى أبواب عمان قادما من الغور .
كدنا لا نصدق إن عودتنا أعادت لنا قدرتنا على التأمل, وعلى اكتشاف إن الأيام الأربعة الأخيرة التي احترقت فيها أشياؤنا ,وسقط فيها دم أردني غالٍ ,ورشقنا الحجارة وأشعلنا إطارات الكاونشوك , وفقدنا بوصلتنا, كانت ثمناً باهظا ندفعه نيابة عن من هربوا وأغلقوا هواتفهم النقالة في تلك الايام الاربعة الصعبة وحجزوا مقاعدهم في الدرجة الأولى إلى مدن العالم بعد أن اخرجوا جوازاتهم الأخرى, واطمأنوا على حساباتهم العالمية, قبل أن يقرروا العودة لاستئناف المزايدة علينا.
اكتشفنا الن الوجع الذي لا يبارحنا اينما حللنا هو من صناعة من اقنعونا بأن المواطنة واجب من طرف واحد وان الانتماء والولاء فرض كفاية وان الكذب ملح الرجال ..وصدقنا.
الغد.