إنّ مسألة رفع الأسعار تطرح على المشهد الأردني سؤالاً جوهرياً مفاده:
هل نحن قادرون على الإصلاح الاقتصادي ومواجهة المسؤوليات المترتبة عليه؟
إنّه من المحزن حقاً أنْ تحتكر فئة مطلب الإصلاح وتزعم احتكار الحقيقة وتحاصر الأمن الوطني انطلاقاً من مصالح ذاتية تغيب المصلحة العليا لهذا الوطن وتخرج عن أخلاق الأردنيين وتقصي نفسها عن صفوف الشرفاء الذين نذروا أنفسهم لتبقى الراية الأردنيةعالية خفاقة.
وهل يفرق الباحثون عن مصالحهم الذاتية بين الحراك السلمي وبين الاعتداء على هيبة الدولة وتهديد أمنها؟
إنّ ردة الفعل على مسألة رفع الأسعار تكشف خروجاً عن الثوابت الوطنية ونقضاً للمنظومة القيمية التي أرسى دعائمها الأحرار من أبناء هذا الوطن. ومن المقرر أنّ المراقب للمشهد السياسي الأردني يتساءل مع أحمد شوقي قائلاً:
إلام الخلف بينـــــــــــكم إلام
وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضــــــكم لبعض
وتبدون العداوة والخصـــاما
وأين ذهبتم بالحق لمــــــــــا
ركبتم في قضيته الظلامــــا
والملاحظ أنّ ما نشاهده عند فئة تحاول استغلال الحراك بهتافات وشعارات تخرج عن قيم الأردنيين الأوفياء لقيادتهم الهاشمية التي حملت عبء النهوض القومي في منطقة تعصف بها المتغيرات. ويبدو واضحاً أنّ الانسياق وراء العواطف الجياشة والشعارات الجوفاء والخطابات المفتعلة يتنافى مع الموضوعية ويوغل في الخروج عن الأساليب الحضارية التي تسود العالم المتحضر. وهنا يبدو أنّ المطلب الملّح هو أنْ يحول الحريصون على هذا الوطن اللحظة الانفعالية إلى أقصى جهات الوعي للواقع مواكبة للتحديات وخروجاً من المأزق الاقتصادي. ولا بد أنْ نلاحظ أنّ الشعارات الطوباوية والخطابات المفتعلة لم يعد لها مكان في ظل التحديات التي تعصف بالمنطقة. وقد أظهر رئيس الحكومة دولة عبدالله النسور أنّ مسألة رفع الأسعار تشكل قراراً لا بد منه لإنقاذ الوضع الاقتصادي. بيد أنّ المبالغة في التصدي لهذا القرار واستخدام العنف لا يشكل اجتهاداً سياسياً يقع في سياق حق الاختلاف والمطالبة بالاصلاح بل يقود إلى خطر يهدد أمن هذا الوطن.
وهنا نشير إلى أنّ العالم يعيش أزمة اقتصادية تلقي بظلالها على شعوب العالم وتتحرك الدول بطرق مختلفة للخروج منها انطلاقاً من الوعي بالمسؤولية نحو التحولات الدولية المتسارعة. ويبدو واضحاً أنّ تخريب مؤسسات الوطن وسلبها يشكل جريمة يتطلب التعامل معها الحزم الذي يؤدي إلى اجتثاثها من جذورها. وأنّ الذين يجعلون مصالحهم هدفاً ويسخرون الوطن تحقيقاً لهذا الهدف إنما يقودون أوطانهم إلى مهاوي الردى. والذي يبدرنا هنا أنّ الوضع الاقتصادي الاستثنائي الذي يمر به الأردن يفرض توحيد القيادات السياسية واستنهاض المسؤولية الجماعية لمباعدة الاختلاف وبناء الائتلاف للخروج من الأزمة انطلاقاً من وعي بالمستجدات الراهنة. فهذه القيادات والنخب السياسية مطالبة بأنْ ترتفع فوق مظاهر الاختلاف وتمارس دورها للتبصر بمتطلبات المرحلة التاريخية وأنْ تقرأ الوطن بلغة الولاء والانتماء التي تنفي التقدم إلى الوراء.
فلا بد من النظر بأولويات المرحلة والتبصر بأسئلتها؛ فالوضع الأردني يستشرف مطلبين جوهريين: أولهما الإصلاح الاقتصادي، وثانيهما الانتخابات النيابية القادمة وأنّ روح المسؤولية تفرض علينا أنْ ننصهر في مسيرة واحدة هادفة جادة؛ لأنّ ما في الميزان هو مصير الشعب ومستقبل هذه الأمة. فقد حقق الأردن بقيادته الهاشمية إنجازات تبعث في النفس الاعتزاز والكبرياء الوطني إذْ يؤدي دوراً ريادياً في انطلاقة الأمة وبزوغ فجرها الجديد وغدها المشرق. ومما يؤسف أنْ يستغل الاعتراض على غلاء الأسعار بطريقة ساخرة مفادها السباق السياسي والرهانات الحزبية التي تحاول أن تعزز مكانها على خارطة الوطن. والمقترح هنا أنْ يستقيل المرء من السياسة والحزبية خير له من أنْ يتاجر بهموم وطنه لبلوغ أهداف ذاتية. وأين تضحية المواطن لإنقاذ وطنه من أزمة عابرة "سحابة صيف" يمر بها؟
وهكذا فإنّ تماسك الأردنيين في نسيج اجتماعي واحد يشكل مبدأ وطنياً راسخاً في ضمائرنا وقد عمل الأردنيون بجوهره وهم يلتفون حول قيادتهم الهاشمية ليبقى الأردن طوداً شامخاً عصياً على التحديات. وأنّ الأردن يشكل قلعة منيعة للعروبة ومركز انطلاق نحو الأهداف المنشودة للنهوض بالواجب دفاعاً عن شرف الأمة ومصيرها. ولا بد أنْ تحرص كل الحرص على وطن النجوم ليبقى قوياً مؤدياً لدوره كي تبقى ثورة العرب الكبرى مشرقة في سماء الأمة تنير للأجيال سبل العزة والمجد.
وصفوة القول أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية تفرض على الدول العربية أنْ تبني نموذجاً اقتصادياً خاصاً بها يؤسس على أيديولوجية تمثل اجتهاداَ في استثمار الثروة العربية تحقيقاً لقوة هذه الأمة اقتصادياً وحمايةً لمصالحها تجاه المجتمع الدولي. وهذا يقتضي بناء نسق حصين يقام على التعاون والتكامل الاقتصادي مراعياً التحولات الاقتصادية العالمية ومؤلفاً نموذجاً يكون عصياً على الاقتحام. ويبدو أنّ غياب تكتل اقتصادي عربي يجعل اقتصاديات الدول العربية عرضة للتأثر بتحديات العولمة. وهنا يشكل مشروع السوق العربية المشتركة مطلباً ملحاً في ضوء العولمة التي تكتسب سيرورة لا تعرف الحدود. ويؤسس هذا المشروع على تضافر الانساق المعرفية المطروحة قطرياً ضمن نموذج يحتكم إلى مرجعيات هذه الأمة وفق وعي حاد لعلاقة الأنا بالآخر. فالإشكاليات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها الأمة ناتجة عن الذاتية التي تغذيها الأيديولوجيات الفردية خدمة لمصلحة الذات على حساب الآخر؛ فالأمة العربية مطالبة بأن تعيد النظر في قراءة الواقع في ضوء المرجعيات الراسخة التي تعظم المصلحة العربية العليا وفق نظرة مفادها أن الأمن العربي أمن واحد لا يقبل التجزئة أو النظرة الأحادية التي تغيب رسالة الأمة.
أ.د. عبدالله العنبر
الجامعة الأردنية