قراءة في كتاب التكليف السامي
هشام غانم
25-11-2007 02:00 AM
.. في لغة دبلوماسيّة مهذَّبّة، و متقشّفة أدبياً؛ أي خالية من المجاز و الاستعارات و الكنايات، لكنْ من غير أنْ يحول ذلك دون أناقتها الأسلوبيّة و المعنويّة، يخاطبُ جلالةُ الملك عبد الله الثاني رئيسَ وزرائه الجديد، نادر الذهبي، قائلاً: «لمّا كانت المرحلة القادمة المليئة بالتحديّات، أساسيةٌ ومهمةٌ في تاريخ الأردن؛ فإنّنا نتطلّع لأنْ يكون عنوانها الأساسيّ: الشأن الاقتصاديّ و الاجتماعيّ».و المقطع المُقْتبَس هذا، جاء مجيءَ استهلالٍ في كتاب التكليف السامي، لرئيس الوزراء الجديد؛ فكنّى (أي المقطع) عن رغبة مَلَكيّة في إيلاء الشأنيْن الاقتصاديّ و الاجتماعيّ، أهميّةً تفوق أو تتعدّى الشأنَ السياسيّ. و حَمَلَ الإيلاءُ هذا كُتّاباً و قراءً كثُر على القول أنّ كتاب التكليف «أغفل الشأن السياسيّ». و الحق أنّ هذا (الحمل) مرتجل و متسرّع. فلمّا كانت «السياسةُ تعبيراً مكثّفاً عن الاقتصاد»، أي أنّ الاقتصاد هو مبتغى و منتهى و غاية السياسة، وَسِعَنا القول أنّ كتاب التكليف كان برنامجاً سياسياً على المعنى الحقيقيّ (أي الغربيّ الأوروبيّ) للسياسة. و قولُ الكِتاب في فقرة متأخرة منه: « نؤكد على أهميّة تعزيز علاقات الأردن الدولية والثنائيّة و ترسيخها وتطويرها، بحث تعود بالأثر الإيجابي على الأردن وتنعكس مخرجاتها على شراكاتنا و أدائنا الاقتصادي» ينهض قرينة ساطعة على حيويّة افتراضنا في أنّ الاقتصاد هو مبتغى السياسة، أية سياسة. و لكنّ هذا، من وجه آخر، يعبّر عن فهم مَلَكيٍّ عميق للسياسة، على رغم العيش في منطقة لا ترى إلى السياسة إلّا مِنْ ثقب إبرة الحروب و القوّة. لا عجب، إذن، حين نرى أنّ الثقافة السائدة في المنطقة تقدِّس القوّة و الأقوياء، و لا تقدِّس إلّا القوّة و الأقوياء.
و الأرجح في الظنّ أنّ الالتباس لدى مَنْ اعتقدوا أنّ الكتاب أغفل الجانب السياسيّ، مردّه إلى مُخَيّلة ضامرة و خاوية، تختصر السياسةَ في «مهرجانات خطابيّة»، و «مؤتمرات صحافيّة»، و «مقاومة»، و «جماهير»، و «صمود و تصدّي».
و لكنّ الكتاب سوف يستدرك و يُرْدِف المقطعَ - الذي اقتبسناه للتوّ – بالقول: «مؤكدين عزمنا الاستمرار في برامج الإصلاح السياسيّ». و القول الأخير هذا، عُطِفَ على المقطع الأول عطفاً؛ أي سُْبِق بفاصلة. و الراسخون في القراءة و الكتابة، لا ريب في أنّهم يُدرِكون أهميّة أدوات العطف و الوقف، الوصل و الفصل، التقريب و التبعيد ، التشكيل و الترقيم، في استيفاء المعنى و استوائه. و الحقّ أنّ علامات التشكيل و الترقيم صَبغت الكتاب بصبغتها، على خلاف كتب التكليف السابقة. و الأغلب على الظنّ أنّها (أي علامات التشكيل و الترقيم) ليست زوائد و نوافل؛ فهي قرينة قويّة على أنّ صاحب القرار – أو من ينوب منابَه - لا يريد أنْ يترك شاردة تشكيليّة و لا واردة ترقيميّة عفوَ خاطرِ و طبعِ القارئ. فكأنّ لسان الحال يجهر، من طريق كلمات المقال (و المقال، هنا، على معنى القول و الجهر)، أنّ لا مجال لتأويل أو تقويل لمعاني و مباني العبارات.
غير أنّ الإشارة العميقة الدلالة في ما خصّ الموضوع الاقتصادي هي ربط الأجور بمستوى الاداء الاقتصادي. «نؤكد على أهمية دراسة ربط الرواتب بمعدّلات التضخم و بمؤشرات الإنتاجيّة والأداء»، على قول الكتاب. و هذه الإشارة لم تَرِدْ في كتب التكليف السابقة؛ و لكنّ البندّ هذا، شأن معظم بنود الكتاب الحالي، يعرض و لا يفرض، و يقترح و يستأنس فوق ما يطلب و يأمر؛ فإذا كان البند السابق يبدأ بكلمة تقريريّة هي «نؤكّد»، يبقى أنّ «التأكيد»، ها هنا، على «أهميّة دراسة الربط»، و ليس على «الربط» نفسه. و لمّا كانت الدقّة تنهض عَلَماً على كتاب التكليف، يغدو يسيراً الافتراض أنّ صاحب القرار يدرك عُسْر مهمة ربط الأجور بمستوى الأداء؛ فاستعمل تعبيراً متواضعاً هو «نؤكّد على أهميّة...»
و إذا لبثنا في البند الخاص بالاقتصاد، سوف نعثر على إشارة لا تقلّ عمقاً و دلالة عن إشارة ربط الأجور بمعدّلات التضخم. فيكتب صاحب القرار، من غير مواربة، و لكنْ من غير صيغة أمر أو نهي، «تعزيز مفهوم المراقبة على جودة المنتجات الغذائية والأدوية والمياه لضمان صحة وسلامة المواطن». و تأويل هذه العبارة ربما كان على ثلاثة وجوه؛ فمن وجه أوّل يريد صاحب القرار أنْ يوحي لرئيس وزرائه أنّه على عِلم و دراية في كلّ صغيرة و كبيرة تجري في البلد، و أنّ، هناك، في المؤسسة المَلَكيّة مِنْ يراقب و يدقّق و يتابع و يتعقّب. و الوجه الثاني الذي تنهض عليه العبارة السابقة هو - ربّما - عتاب مهذَّب لرئيس الوزراء الأسبق، معروف البخيت. إلى ذلك يجوز الافتراض أنّ العبارة إيّاها تُضْمِر تحذيراً مبطّناً، مفاده أنّ لا تَسامحَ مع مَنْ يعبث في صحّة و سلامة المواطنين، و هذا هو الوجه الثالث. و آية هذا الوجه هي الفقرة التي تَلَت العبارة السالفة الذكر. و الكتاب أوردها موردَ تعليلٍ متماسك على العبارة إيّاها: «إنّ المواطن كان (...) الحلقة الأهم في عملية التحديث و التنمية، و العنصر الرئيس في معادلة التغيير و التقدّم».
و سوف يبلغ الكتاب مبلغاً مُعلّى حينَ الإشارة إلى «العملية التعليميّة»، و ذاك بأنّ الأخيرة «كانت و ستبقى من أهم مصادر التكوين المعرفيّ للأردنيين، و عاملاً أساسياً في زيادة الإنتاجيّة»، على قول الكتاب، بيد أنّ هذا هو الغيض، فيما الفيض سيأتي في الفقرة التالية للبند الذي نحن بصدده. فيقول: «...سنعهد خلال الأيام القليلة القادمة لِلَجنة ملكيّة استشاريّة متخصّصة تأخذ على عاتقها رفد الجهات المشرفة على التعليم العام بالأفكار و الخطط و المقترحات...»
و الفقرة هذه، تعلن بصوتٍ مدوٍ أنّ هناك قلقاً مَلَكيّاً جديّاً حول الملفّ التعليميّ و البنيّة الفكريّة للمجتمع، و تعلن، من وجه آخر، أنّ المؤسسة المَلَكيّة تريد أنْ تُلْقي بثقلها في الملف إيّاه، و من وجه ثالث تعلن أنّ هذه المهمّة عسيرة و شاقّة، و لا قِبَل للحكومة بخوض مخاضها وحيدة، و من غير سَنَد. و هذه قد تكون المرة الأولى التي يتناول فيها كتابُ التكليف مسألة الثقافة المجتمعيّة و البنية الفكريّة بهذا الإلحاح و الجديّة. و آية ذلك أنّ المَلِك لا يكتفي بالطلب إلى الحكومة العتيدة إيلاءَ الملفّ الفكريّ أهميّة؛ و لكنّه يضع إمكانات المؤسسة المَلَكيّة تحت تصرّف الحكومة و طَوْعَ بنانها. و لعلّ البند هذا يقوم بمنزلة «ردّ الاعتبار» (في لغة المحاكم و المحامين) للعقل.
أمّا في ما خصّ القضاء و الإعلام فالأغلب على الظنّ أنّ هناك قَلَقاً مَلَكيّاً، لا يقلّ عن القلق على الملفّيْن الاقتصاديّ و الفكريّ. فقضاء الحقّ، و هذا حقّ القضاء، هو «...صَمّام الأمان ضدّ أي هفوات و تجاوزات». و أمّا الإشارة المَلَكيّة للملفّ الإعلاميّ فتستوي حجةً و شاهداً على اهتمام المَلِك الدائم له، هذا مِنْ وجه أوّل، و من وجه آخر، قد يكون طرح هذه المسألة عتاباً للحكومة السابقة التي أثخنت إثخاناً متطاولاً في الحريّات الإعلامية. و إرداف الملفّ الإعلاميّ بالملفّ القضائيّ، و تكرار ذكرهما في كتب التكليف السابقة، و الإلحاح المستمرّ عليهما، يقوم ( الإرداف و التكرار و الإلحاح) مقامَ إثبات الصفة الحقوقيّة و الدستورية و القانونية على وجوه السياسة و الاجتماع. و هذا فهمٌ عميق للسياسة، على معناها الفكريّ. و من غير تعسّف أو إطناب.
و على جاري عادة كتب التكليف السابقة، ضمّ الكتاب الحالي في ثناياه و تضاعيفه، إشارات لا تخطئها العين حول قيم إنسانيّة راقية، من غير أنْ يحول تكرارها دون صحّتها و رقيّها، كمثل التسامح و العدالة الاجتماعية و المساواة و سيادة القانون و محاربة الغلوّ و التطرّف. و هنا، استعمل المَلِكُ، عبارة افتتحها بــ«إنّ» التقريريّة، و بما يشبه صيغة آمِرة، قائلاً: «فإنّ الحكومة مدعوة للعمل على ترجمة قيم ومبادئ العدالة الاجتماعية...»
و موجز القول أنّ كتاب التكليف لم يسلك في سلك كتب التكليف السابقة؛ بل فاقها شكلاً و مضموناً، و سطوره تجهر بإرادة مَلَكيّة تنحو نحو أردن حديث؛ لشقّ سبيلٍ ينتهي إلى نهاية، و ينعقد على غاية؛ و الغاية و النهاية هاتان، هما تحقيق الازدهار و الرفاه و السعادة لكلّ أبناء الأردن.
و على رغم البنود الكثيرة التي وردت في الكتاب؛ إلّا أنّها لا تستعصي على الوصف والرسم و لا تمتنع من الإحصاء و التعقّب. و هذا كلّه، و غيره مثله، لم يتركْه الكتاب مرسَلاً و متعسّفاً، بل قَيّده يقيدِ «جداول زمنيّة» و « ومؤشرات لقياس الأداء». و لعلّ الصفة المهنيّة (أو «التكنوقراط» في رطانة صحافيّة سائرة) للوزراء الجدد، أمارة على أنّ رئيس الوزراء الجديد التقط الإشارة، بل الرؤية المَلَكيّة لما ينبغي أنْ يكون عليه الحال. غير أنّ المحكّ الحقيقيّ هو مدى تطبيق ما جاء في كتاب التكليف من رؤى و قيم غَلَبَ عليها الطابع الإنسانيّ و المدنيّ و الليبراليّ.