كانَ عليّ أن أسترجع مشهد المحامي (مصطفى خلف) الذي لعب دوره أحمد زكي في فيلم "ضد الحكومة"، حين أُغلقت في وجهه كل السُّبل، ووضعت في طريق سعيه نحو العدل العقبات كافة، فأنهى مرافعته في المشهد الأخير من الفيلم حين توجه لهيئة القضاء "نلوذ بكم، أغيثونا".
وجدت نفسي وأنا أستذكر ذلك المشهد المرير الذي يحمل رسالة أكبر حتى من الفيلم نفسه، وجهاً لوجه مع حقيقة أن القضاء كان عصياً على الانصياع لأوامر وتدخلات من اعتقدوا يوماً أنهم ملكوا الدنيا وما عليها، وباتت البلاد والعباد حديقة خلفية لمغامراتهم.
حقيقة أخرى كدنا لفرط مجاملاتنا وتجملنا أن نغض الطرف عنها وننساها إلى الأبد، مفادها أن نفراً قليلاً من أصحاب النفوس الضعيفة قد أذعنوا يوماً لأوامر أولئك الذين تنفذوا ونفذوا إلى مقدرات الأمة، وسبروا أعماق دواخلهم وكشفوا مستورهم وعرّوا خصوصياتهم.
بعض من أولئك وهم قلة قليلة "بفضل الله" استجابوا يوماً لأوامر سلطوية طمعاً في ترقية أو تطلعاً إلى بعثة أو منصب، لكنهم في نهاية المطاف وجدوا أنهم أضاعوا روح القسم وجلاله وتاهوا في وعود من غادروا هم أيضاً على وقع فضائح الفساد، بعد أن انهارت بروجهم العاجية وانكشف مستورهم بأيديهم.
ولعلنا، وقد انهارت بنا ثقة الماضي بالشخوص والمقامات المهيبة، وسقطت أقنعة العفة والشفافية والأداء المسرحي الركيك حول "الوطن وواجبات المواطنة، وحقوق البلد علينا"، نجد أنفسنا أيضاً وجهاً لوجه مع حقيقة أخرى تفرض نفسها بإلحاح على القادم من الأيام بكل ما تحمله من توقعات، وهي ثقتنا بالمؤسسات قد اهتزت ولم يتبق لنا إلا القضاء النزيه قشة نلوذ بها.
أتذكر أن مسؤولين كبارا اعتقدوا أنهم كبار بالثقة وأهل لها، قد زحفوا نحو نزاهة القضاء وكادوا أن يبتلعوا آخر معاقل العدل وفسدوا وأفسدوا قلوباً ضعيفة، لكنهم أبداً لم ينالوا مبتغاهم وبقي الجهاز الرصين متيناً حتى مع بعض القلة التي لم تكافأ إلا بوجع الضمير بعد أن غابت الوجوه التي وعدت، وفاتت فرص المناصب الوعد.
اليوم وقد سمعنا من جلالة الملك، وبعد أن تحقق للبلد حلم الدستورية محكمة واستحقاقا وصفحة جديدة في حياة الأردن المعاصر، عن استقلالية القضاء التامة وتنزهه عن التسييس والتدخلات وتلوثات المسؤولين الحالمين بسلطات مطلقة، نجد أن ليس أمامنا إلا القضاء ليكون حصننا المنيع في وجه الفساد الحكومي والواسطة واختلال موازين الفرص والمساواة.
"نلوذ بكم" أرى نفسي موجهاً إياها من جديد نحو الجهاز القضائي، وقد نأى بنفسه عن العبث بحقوق الناس وبفرص التقاضي القائمة على الحق والعدل والشفافية المطلقة، وصدّ قضاةٌ كبار بقسمهم والتزامهم مطالب وتدخلات.
المأمول أن يبقى رجال القضاء بعيدين عن دوائر العمل العام والمطامع والمطامح، حينها سيقطعون الطريق على الحالمين بتحويلهم إلى أدوات لتحرير كل الأوامر الشفهية لتتحول إلى قرارات قضائية نافذة، كما كان يحصل في لعبة الترغيب والترهيب.
في تشكيل المحكمة الدستورية التي تزامنت مع تأكيدات ملكية على مبدأ الفصل بين السلطات ومنع تغول احداها على الاخرى وضمان استقلالية القضاء وتدعيمه بسبل النجاح، فرصة لنؤكد أن ملاذنا المنيع ما يزال بخير، وما نزال قادرين على محاسبة الفاسدين وهم في مكاتبهم الفارهة، وقبل أن ندفع ثمنا من أعمارنا وكراماتنا ثم نكتشف أنهم فاسدون.
تذكرت "نلوذ بكم" وأنا امام القاضي طاهر حكمت في حديث حمل من الشفافية والصدق ما اشعرني بأن القادم بخير إن تخلصنا من بقايا الماضي المرهق، وبعيداً عن أوهام الاستئثار والإقصاء، وتوزيع التهم الجاهزة.
الغد