الصورة الانطباعية المباشرة السائدة عن سيد قطب، في أوساط ثقافية عربية وغربية، تتمثّل في أنّه "الأب الروحي" للتيار الراديكالي الإسلامي، والمدشّن لمفهوم الحاكمية (مع أبي الأعلى المودودي). إلاّ أنّ هذه الصورة تختزل جوانب مهمة ورئيسة من فكره وأدبه، وتتغافل تماماً عن "الشرط التاريخي" الذي أسّس فيه للأيديولوجيا الثورية الإسلامية، ويتمثّل في لحظة المواجهة الحادّة بين "الجماعة الإسلامية" والضباط الأحرار في مصر، وانحياز قطب -المقّرب في البدايات من مجلس قيادة الثورة- للجماعة، بعدما شعر بأنّ هنالك نذر "محنة" قاسية قادمة لها.
الوظيفة التاريخية لـ"أيديولوجيا الحاكمية"، ضمن معطيات تلك اللحظة، تمثّلت في مهمتين أساسيتين:
المهمة الأولى؛ تقديم إجابات لـ"الإخوان" عن أسئلة المحنة والابتلاء والسجون والمعتقلات التي واجهوها مع الحكم الناصري، مع انفضاض الشارع عنهم. وهو الجانب الذي لم يكن الإمام حسن البنا (مؤسس الجماعة) قد فصّل فيه كثيراً، ما خلق فراغاً فكرياً كبيراً حاول قطب ملأه من خلال القول بـ"حتمية" المواجهة والصراع ما بين الإسلام والجاهلية، لتفسير مرحلة السجون والتعذيب والإعدامات والقتل، وحماية تماسك مشروع الجماعة وتمكين أفرادها من الصمود في هذه "المحنة".
أما المهمة الثانية؛ فهي "نزع القداسة" عن الحكم الاستبدادي، وخلع لباس المشروعية الدينية والسياسية عنه، عبر خلق حالة من التصادم بينه وبين العقيدة نفسها والتوحيد، بالقول بأنّ من لم يحكّم الشريعة الإسلامية هو حاكم كافر، حتى وإن رفع شعارات العدالة والقومية وغيرها.
بالضرورة، هذا التأكيد على الحاكمية -في سياق المواجهة السياسية والفكرية مع الحكم الناصري- ولّد في المقابل فهماً مغلقاً ومتعسّفاً لدى جيل جديد من الشباب الإسلامي، الذين أخذوا كلامه في أيديولوجيا الحاكمية بعيداً عمّا أسّسه البنا، أو عن المشروع الإصلاحي لجماعة الإخوان؛ وذهبوا نحو خطاب أكثر تطرفاً وتشدداً دينياً وفكرياً وسياسياً، ثم وصلوا مع عبدالسلام فرج إلى القول بـ"الفريضة الغائبة"، أي الطريق المسلّحة لتطبيق المشروع الإسلامي، وهو ما تفرّع لاحقاً وتشعّب حتى وصلنا اليوم إلى "السلفية الجهادية" و"القاعدة".
بالرغم من ذلك، فإنّ الركائز الرئيسة لمشروع سيد قطب لم تكن تذهب بهذا الاتجاه، ولو قُدر لنا أن نتخيّل الرجل اليوم، لما تصوّرنا أنّه سيكون زعيماً من زعماء السلفية الجهادية، أو "القاعدة"، وإنّما قائداً مناضلاً من أجل تحقيق الحريات والتوفيق بينها وبين مبادئ الشريعة الإسلامية وقيمها، خارج سياق الشرط التاريخي الذي ظلم فكره، وضغط على هذا الأديب والمثقف الألمعي "وجدانياً" لتفسير الظلم الواقع على الجماعة، ومحاولة خلق آفاق من الأمل بالحرية والتغيير لأبنائها! جوهر فكر قطب يتمثّل في تكسير ثقافة ألوهية الحكام وتقديسهم، وفي الوقت نفسه رفض "الحلول الترقيعية" لتجميل النظم الاستبدادية، والإصرار على التغيير الكامل والجذري لاستكمال مفهوم الحرية السياسية للمجتمعات العربية، عبر "مبدأ المفاصلة".
ولعل هذا البعد المهم من أبعاد الخطاب القطبي، هو ما يتجلّى اليوم في ثورات الشعوب العربية ضد الاستبداد والدكتاتورية، وإعلان الثورة على ثقافة الخنوع والخوف، وهو وجه مشرق واستشرافي لهذا المفكر المظلوم. هل كان سيد قطب يؤسّس لدكتاتورية إسلامية على أنقاض الدكتاتورية العربية، مثلاً؟
من يقرؤه جيداً ويمعن النظر في فكره وأدبه، يدرك تماماً أنّه أبعد ما يكون عن ذلك، وما تحفّظه على مصطلح الديمقراطية إلاّ جزء من سياق حرصه على الاستقلال الحضاري في النظم والثقافة والسلوك، لكنّ أفكاره وخطابه وحياته كُرِّست لمفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية والصراع مع الفساد والاستبداد، عبر كتبه المعروفة؛ فهو مركّب من ثقافات إسلامية وتحررية وثورية، ما بين "العدالة الاجتماعية" و"الصراع مع الرأسمالية" و"معالم في الطريق"، فلا يجوز اختزال فكر الرجل وحضوره في بُعدٍ واحد!
m.aburumman@alghad.jo
الغد