في العالم المتقدم ثمة مؤسسات عامة لا غنى عنها في تسيير أمور الدولة, بل لعلها أهم منظومات العمل داخل المطبخ الحكومي للدولة, هي مؤسسات دعم اتخاذ القرار التي بموجبها تتوصل الحكومة لخلاصة آراء واستشارات نخب من المختصين والخبراء والضالعين في شؤون القطاعات المختلفة, قبل ان تَشرع بإتخاذ قرار يمس حياة المواطنين ويومياتهم.
مثل هذه المؤسسات وجدت طريقها الى بيوت الحكم ومجالس وزراء دول عربية عديدة وإن لم تعمم بشكل واسع بسبب علة الإستحواذ التي تسيطر على صنع القرار .
ولأن هذا الخط من المؤسسات يبتعد بمكوناته وآليات عمله عن خط المستشارين المعروفين لدنيا بالعشوائية والتخبط والأرتباك فأننا بأمس الحاجة لمؤسسة نخبوية ذو تخصصات رفيعة, لا علاقة لها بآليات التعيين والتشكيل المعتادة للمجالس واللجان, حتى تمهد لقرارات حكومية قابلة للتطبيق دون اجحاف بحق شرائح واسعة من المواطنين بحجة مصلحة الوطن العليا او انقاذ لموقف حرج.
عندنا لا يكاد يمر يوم حت نتابع أخباراً على شاكلة.."الحكومة تفكر بتسيير المركبات وفقاً لنظام الفردي والزوجي", و"الحكومة تفكر في طريقة جديدة لمعالجة الأزمة الفلانية" أو انها تفكر في رفع الدعم أو تفكر بتقديم دينارين وعشرة قروش للمواطن الفقير.. ".
يبدو أن الحكومة فكرت بلا مقدمات ودون أن تعلمنا بأنها تفكر.. حين قررت تجميد التوقيت الصيفي تحت بند توفير الطاقة والتخفيف من أعباء الفاتورة النفطية على الدولة.
الحكومة تفكر عنا, هكذا تعودنا حين يكون الموضوع على تماس مع يومياتنا ولقمة عيشنا واتساع شوارعنا وقلة نومنا, وتفكر هكذا لوحدها , دون العودة لمراكز دعم صناعة القرار أو أستطلاعات رأي شفافة وموضوعية تستبين توجهات الناس وأفكارهم.
وحين نخفق في أقناع المواطن بما فكرت به الحكومة واقدمت عليه, تطالعنا العناوين المُمسرحة بأن " المواطن الأردني يمارس دلاله الشديد على الحكومة", أو كفانا دلع أيها الشعب", ثم نُمعن في تنفيذ قرارات الحكومة التي هي نتاج التفكير..حتى تكتشف الحكومة نفسها عدم صواب القرار..فتفكر, بالتراجع عن القرار..
أجمل تصريحات ناطق رسمي صدرت منذ مدة أن "الحكومة تفكر بكل الإحتمالات" وبهذا التصرح الشامل الكامل تتضح الرؤية المتسعة للحكومة حول كافة القضايا والسيناريوهات المرافقة لمعالجتها دون أن يُسأل مواطنٌ واحد وعبر أية وسيلة حضارية عن أثر هذا الإحتمال على حياته؟!
تبدو بعض الأفكار المطروحة من مواطنين عاديين خبروا طعم الحياة بحلوها ومرها ,وعرفوا معنى التعب وساعات الإنتظار وتَمَرسوا في بناء ميزانيات منزلية ناجحة بإمكانات محدودة, وعلَموا أجيالاً من الشباب بتقديم الأولويات وحرموا أنفسهم من كل ما أقنعوا أنفسهم بأنه ليس من الأولويات ..تبدو أفكار هؤلاء الخبراء بالحياة, أهم من مقترحات المستشارين المُنعمين بطعم واحد للحياة, الذن تعودوا أن يطرحوا مقترحاتهم مصممة على برامج (الباور بوينت)..هي بالفعل أهم..
لعل المواطن الأردني هو أكثر مؤسسات دعم صناعة القرار وعياً ودراية بشؤونه وما يؤثر على ظروفه الحياتية, بعيداً عن الأفكار الملتهبة للمستشارين ومسؤولي طرح الأفكار في الحكومة..
هنالك أساليب عديدة يمكن للحكومة بها أن تستعيد نفسها وزمام الأمور, لتوفر وتسهل حياة المواطن اليومية, دون ان تلجأ لافكار هؤلاء ولعلها بدونهم ايضاً تُسهم في أخراج البلاد من أزمتها الأقتصادية, وتغلق الطريق على من يتسلل عبر فجوة الغياب الحكومي عن مصالح الناس..
لا مكان اليوم لشعار " لاتفكر..دع الحكومة تفكر عنك".. فقد أثبتت الإخفاقات المتراكمة ومضاعفة المديونية وتجربة غياب الرقابة والشفافية وتفشي روح "ابن الدولة" في مواجهة المواطن العادي, ان هذا المواطن يفكرُ ويضع حلولا أفضل من الحكومة ومستشاريها .. ولعل على الحكومة ان تفكر الآن أكثر من أي وقت مضى, أن لا تفصل نفسها عن الشارع وأن لا تقف عاجزة عن جسر الهوة مع مطالب ..وثقة الناس .
الأمر أبعد بكثير عن مسألة التوقيت الشتوي ..بالمناسبة
عن الغد