الثورات الديمقراطية كانت مفاجِئة وصادمة بعد "سنوات عجاف" من الانغلاق السياسي والاستعصاء السلطوي واستفحال الفساد. وهي نفسها ما تزال خاضعة للتفسير: كيف حدثت؟ وليس "لماذا؟" فالكل كان يدرك أنّ الشروط الموضوعية للثورات كانت متوافرة، لكن الحلقة المفقودة خلال العقود الماضية تمثّلت في فقدان الإرادة الشعبية للتحرر السياسي وكسر قيود الاستبداد، والتخلّص من الجبال الثقيلة من تراث ثقافة الخوف على عقول الناس وقلوبهم، والتي كانت تمنح الاستبداد أكبر مورد حقيقي لـ"الاستخفاف" بالجماهير والناس (استخفّ قومه فأطاعوه).
الثقافة، إذن، هي عامل مهم جداً في تفسير الثورات الديمقراطية العربية. وما كان يمكن أن نتصوّر هذا "الخروج الشعبي" الكبير لو لم تتحرر الشعوب العربية من فتاوى الخنوع وثقافة الاستسلام واليأس والإحباط في ظل أنظمة بوليسية فاسدة. بالرغم من ذلك، فإنّ العامل الثقافي ليس ذا بعدٍ واحد، وهو مرتبط (أيضاً) بعوامل اجتماعية واقتصادية، وبدور الدين والمسجد والكنيسة، وبالحالة الطائفية.. إلخ.
أحد الأسئلة الرئيسة، مثلاً، تمثّل في دور الأزمة المالية العالمية التي ضربت الطبقة الوسطى في كل من مصر وتونس بدرجة رئيسة، في تحريك هذه الشريحة لتلعب دوراً حيوياً ضد تحالف "الاستبداد والفساد"، بعد أن بدأت أوضاعها الاقتصادية تتهدّد، وقدرتها على التكيف مع الشروط الاقتصادية تضعف.
وسؤال آخر حول دور ثورة التكنولوجيا في تكسير هيمنة "رواية السلطة"، وهدم الجدران الوهمية التي تحول ما بين الناس والشعور بالقدرة على التغيير والاحتجاج، وتشكيل فضاء شعبي بديل خارج قيود السلطة السياسية وقدرتها على التحكم.
بالنتيجة، فإنّ انكسار الثقافة التقليدية التي تبرّر الخضوع للسلطة، يفسّر لنا بوضوح نزعة التحرر التي اشتعلت لدى الشعوب العربية، ليس فقط في الدول التي شهدت ثورات، بل حتى في عموم الشارع العربي. إلاّ أنّ التعثّر الحالي في الدول التي شهدت الثورات الديمقراطية، هو (أيضاً) أحد تجليّات العامل الثقافي؛ بمعنى أنّ التحول في الثقافة السياسية العربية باتجاه التخلص من رواسب القبول بالاستبداد والاستسلام للأمن، ليس كافياً بحد ذاته للوصول إلى أنظمة ديمقراطية مؤسسية مستقلة، فهنالك جوانب مهمة وضرورية ثقافية تمثّل روافع للأنظمة الجديدة ما تزال هشّة.
هذا يعيدنا إلى السؤال الاقتصادي، مرّة أخرى. وربما ما طرحه الدكتور عمر الرزاز يضيء جانباً مهماً في الاختلال الحادث مع الثورات الحالية، ألا وهو الاقتصاد الرعوي، وضعف الاقتصاد الإنتاجي (القطاع الخاص المبتكر أحد تجلياته)، واستمرار الاعتماد على الدولة وتضخم القطاع العام. وهو ما يعزز من العلاقة الرعوية ويضعف من تغلغل قيم المواطنة وسيادة القانون والتفكير العقلاني والحقوق الفردية التي تتزاوج مع تغييرات مهمة في ثقافة الناس وسلوكهم ورؤيتهم لطبيعة العلاقة مع الدولة، أو بعبارة أخرى للعقد الاجتماعي الحقيقي الذي يحكم النظم الديمقراطية ويصلّب استقرارها ورسوخها، بل حتى في ترسيم صيغة العلاقة بين الدين والدولة التي تمثّل اليوم إحدى أكبر الجدليات في تأسيس النظم الجديدة.المشكلة تبدو في أنّ الأحزاب السياسية العربية، وفي مقدمتها الأحزاب الإسلامية، تتعامل مع الحقبة الحالية وكأنّ المطلوب تحصيل مكاسب سياسية، بدون النظر إلى المخاطر التي تتهدد التجربة في بدايتها وضرورة التعاون مع الأطراف المختلفة، لا أن ندخل في صراعات داخلية، بينما الوضع الاقتصادي يهدد بنسف العملية بأسرها، والثقافة الشعبية لم تنته بعد إلى التحولات المطلوبة!بالتأكيد لن تقام أنظمة ديمقراطية ناجزة بين ليلة وضحاها، لكن فهم صيرورة التحول يساعد كثيراً على تجنب العثرات، والسير في الاتجاهات الصحيحة.
m.aburumman@alghad.jo
الغد