الحج .. صيحة التوحيد الخالدة
محمد حسن التل
25-10-2012 05:56 AM
اليوم.. يوم الله على الأرض، وكل الأيام لله العظيم، حيث تلتقي الأرض بالسماء، على صعيد عرفات، اليوم، يقف المسلمون على الصعيد الطاهر، وقد جاؤوا من كل فجٍّ عميق، ليلبوا ربهم الواحد وينادوه وحده. في هذا الموقف، الذي يبهر العالم في كل عام، حيث التمازج العظيم، بين أمة الإسلام، فلم يكن عبثاً، أن يقرر الله تعالى، ركن الحج على المسلمين المقتدرين، مرة في العمر، وكأنه يمنح لعباده، فرصة العبادة مرتين، حيث يعود الحج مغتسلاً من الذنوب، كما ولدته أمه.
في هذا اليوم، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قواعد تنظيم التعامل في المجتمع الإسلامي، عندما قال «ايها الناس اسمعوا قولي، فانني لا ادري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا، ايها الناس.. ان دماءكم واموالكم، وفي رواية اخرى، اعراضكم عليكم حرام الى ان تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وانكم ستلقون ربكم فيسألكم عن اعمالكم وقد بلغت، فمن كان عنده امانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها، وان كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله انه لا ربا، وان ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله، وان كل دم كان في الجاهلية موضوع وان اول دمائكم اضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو اول ما ابدأ به من دماء الجاهلية».
والحج، لم يكن يوما من الايام، ولن يكون مجرد عبادة شكلية، ترتبط بأفعال واقوال، وانما هو في جوهره، فعل حركي، من اهم ما جاء به الاسلام. المتأمل في تفاصيل عبادة الحج، يندهش من الحكمة البالغة، التي وضعها الله عزَّ وجل، في مناسك هذا الركن الأساس في الإسلام، التصاقاً بالهدف الأسمى للرسالة المحمدية، وتوحد الرسالات السماوية كلها، وعبادة الحج بالذات، لها عمق تاريخي، يصل إلى دعوة إبراهيم عليه السلام، يقول الله تعالى «ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت». ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الأيام يوم عرفه، إذا وافق يوم الجمعة فهو أفضل من سبعين حجة من غير يوم الجمعة، وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وأفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له». ومن يتمعن في سيرة الأنبياء عليهم السلام، يتأكد له أن هدفهم جميعاً، هو العمل على إحلال التوحيد محل الشرك، وإحلال شريعة الله محل شريعة من سواه، والدعوة إلى الله ومحاربة الطاغوت.
والحج، هو صيحة الإنسانية في الدعوة إلى التوحيد ومقارعة الكفر والطاغوت، وتكريس لمحطات إيمانية كبرى، رسَّخت على الأرض، قيمة التوحيد لرب العباد. وقد قيل أنه لا تجتمع في أي ركن من أركان الإسلام، ثنائية الموت والولادة، كما تبدو في موسم الحج مجتمعة ومنسجمة ومتآلفة، فعبر كل محطة من محطات هذا السفر الطويل إلى الله، يخرج الإنسان مندهشاً بين هذا التمازج الغريب، بين لحظة تعلق فيها إقبالك، على برزخ جديد، تبدأ فيها ولادتك، وبين لحظة أخرى، تتأمل فيها عروجك، إلى دار مختلفة، تذكرك بها الملاءات، التي يلتف بها جسدك، وكأنها الأكفان، وحشود الملايين، الذين ترتفع أصواتهم بلغة واحدة، ومن فوق صعيد واحد، وحول أماكن، هي ذاتها، مرددين نداء التوحيد الخالد «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك».
يقول المفكر الإسلامي الراحل علي الطنطاوي، في كلمة له عن عرفات: «هناك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد ومسود، وعبد ومعبود. وتحيا في عرفات، حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير. هناك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب، إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاد، وتعم المساواة، ويسود الإسلام. هناك تظهر المعجزة الباقية فتطوى الأرض، ثم تؤخذ من أطرافها، حتى توضع كلها في عرفات.. فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه اللوان على المصور فوق ألوان، أو تفرقه في السياسة، خرق تتميز من خرق، وأعلام تختلف عن أعلام. ذلك لأن وطن المسلم في القرآن، لا في التراب والأحجار، ولا في البحيرات والأنهار، ولا في الجبال والبحار «إنما المؤمنون إخوة» لا «إنما المصريون» ولا «إنما الشاميون» ولا «إنما العراقيون». هنالك وقف سيد العالم صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، يعلن حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام، وينشر الاخوة والعدالة والمساواة بين الناس، قبل أن تنشرها فرنسا بألف عام».
على عرفات، وفي هذا اليوم؛ فإن القلب ليخفق حقاً، وهو يستشعر الحركية الهائلة، في هذا المشعر العظيم والموقف الرهيب، الموحي بشتى المشاعر الإنسانية، المنسجمة مع إرادة الله تعالى، بوجوب محاربة الكفر ومقارعته، في كل زمان ومكان.
في يوم الحج الأكبر، تتجلى صورة الإسلام ورسالته العظيمة للعالمين، رسالة السماحة والعدل والمساواة، في مثل هذا اليوم، يستشعر المسلمون، حجم خسارتهم وخيبتهم، يوم ابتعدوا عن الصراط، الذي أراده لهم خالقهم، عبر رسالته لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، في مثل هذا اليوم، أعلن سيد البشرية وإمام الدعوة والإصلاح على الأرض كافة، وفي كل الأزمان، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، انتهاء رحلة النبوة، يقول الله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا»، حيث انخلع قلب أبي بكر ومعه المسلمون، لأنهم فهموا الإشارة، إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكمل مهمته ورسالته، وأنه يودع أمته.
اليوم، يتباهى ربّ العزة والجلال بعباده، حيث يقول في الحديث القدسي «هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه»، فلتفسد الأرض ولتطغى الشرور وليعصف الحديد ولتغص الإنسانية على حمأة الرذيلة إلى العمق؛ فإنه لا خوف على الفضيلة وعلى الحق وعلى السلام، ما دام في الأرض عرفات، وسنظل نردد لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك، ما دام على الارض حياة. (الدستور)