أكدت حركة التاريخ أن المثقفين كانوا وما يزالون في طليعة حركات التغيير والإصلاح، وطليعة الثورات منذ أقدم العصور، ومن البديهي أن أي تطور سياسي أو اجتماعي لا يمكن له أن يرى النور دون مواكبة الثقافة له، ودعم المثقفين لحراكه، حيث أنيط بهؤلاء المثقفين دور الإسهام في بناء الوطن، وتنشئة الأجيال الجديدة، والمساهمة في صوغ الرأي العام، وتبادل الآراء التي تسهم في بناء الوطن، ودعم الإصلاحات الضرورية، مواكبةً للعصر، وانسجاماً مع إيقاع حركة التاريخ في عالم متغير.
لعل مؤتمر "الثقافة في عالم متغير" الذي نظمه في رحاب جامعة البترا، ملتقى اربد الثقافي وملتقى المرأة بالتعاون مع الجامعة ومديرية ثقافة اربد، قد وضع يده على الجرح حين بين المؤتمرون أن القيم السامية النبيلة هي التي يجب أن تربط بين الناس في كل زمان ومكان في عالم متغير نحو الأفضل بعيدا عن قيم التناحر وثقافة التهور والنزوع الى الشر، وأن المعرفة المتميِّزة، والفكرِ الحُرّ، هما منارة للثّقافةِ التي تستجيبُ بفاعليَّةٍ لعالَمٍ ناهضٍ تتغيَّرُ معالمُه باستمرار. وأن اتسام الثّقافةُ بالمُرونة، يجعلها َ قادرةٍ على توفيرِ الأُطُرِ والمنهجيّاتِ والطُّرق المناسبة لمواجهة التّحدّياتِ الجديدة.
أصاب مفصلاً هاماً راعي الحفل الدكتور عدنان بدران حين بين كذلك أن مرونة الثقافة تنبُعَ من القيَمِ الإنسانيَّةِ العُليا، ومن تُراثِنا الأصيل السَّمْح، ومن شخصيَّتِنا القوميَّة والوطنيَّة. التي يجب أن لا تكونَ مُنغلِقَةً، أو إقصائيَّةً تهمِّشُ الآخَر وترفُضُه وتُلغِيه. مبينا أن القِيَمُ الإنسانيَّةُ العُليا هي التي تمنحُ الثّقافةَ أصالتَها، وتُكسبُها ميزةَ المعاصَرَةِ في الوقت نفسه. مع التّركيزِ على قيَمِ الإنجازِ والإبداعِ والحرّيّة والتّنوُّع والاختلافِ الحَيويّ، والإيمانِ بالقدرةِ على تحقيقِ الطُّموح، والبناء، والمساهمةِ في مجتمعٍ إنسانيٍّ حُرّ نَبيلٍ متعلّمٍ مُبدِع ديمقراطيّ.
وأكد أن ما يشهَدُه العالَم من حولِنا، من إعادةِ تشكيلِ خارطة التّحالفاتِ والتّكتُّلاتِ السّياسيّة، والاقتصاديَّة، ويَمُورُ بهِ عالمُنا العربيّ بصورة خاصَّة، يفرضُ علينا التّمسُّكَ بقيمِ النّزاهَة، والوَحْدَة، والشّراكَة، والسّعيِ الجادِّ للبناءِ والإبداع، ونقلِ التّعليمِ نقلةً نوعيَّةً: من معرفةٍ مجرّدةٍ نظريَّة، إلى صناعةٍ ومهارةٍ وتكنولوجيا وتطويرٍ وسلع.
وبعد،، فإن الثقافة في عالم متغير كالذي نشهد ترفض التقاليد البدائية البالية التي تتمحور حول التطرف والشر لأنها لا تنهي الخصومات بين الناس بل تجرهم نحو الويلات والحروب، وفي هذا السياق أرى أننا بحاجة الى ان نضع انفسنا إزاء عملية تثاقف بما تعنيه من أصغاء متبادل من سائر الثقافات الى بعضها البعض مع التأكيد على مباديء المشتركات الانسانية من دون ان ننزلق ونهوى نحو ثقافة واحدة منغلقة لا تصغي إلى أحد.
نحن بحاجة في عالم متغير الى تأسيس أخلاقيات الإعتراف بالآخر ونهج حقيقي لمعرفة متبادلة بين البشر، وحوار لا يدور في إطار الخصوصيات الثقافية، ولكن في إطار المشتركات الإنسانية ، أي القواعد والمعايير والقيم التي يقبل الجميع النظر اليها باعتبارها قاسما مشتركا مقبولا من جميع أو أغلب المجتمعات البشرية.
نحن لا نحتاج في عالم متغير إلى ثقافة غارقة في محليتها، متشبثة بماضويتها ونماذجها، تتضخم فيها الأنا غير الواقعية، الأمر الذي يضيق حلقة الإنغلاق على الذات، ونبذ أو رفض الثقافات الأخرى.
المسألة أننا يجب أن نخرج من عجزنا وقصورنا لنتحول إلى مشاركين في صناعة العالم بصورة غنية وخلاقة رافضين الحمولات الزائدة من الأطر المرجعية التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحول، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بثقافة الآخر والتعلم منه، يجب أن نجعل موضوع الثقافة في عالم متغير، موضوعا للفهم والتحليل على اعتبار أن الثقافات جميعها واسطات للتعبير الإنساني ومعابر إلى الكون الذي يجمع البشر جميعا تحت قيم الانفتاح والتعاون والمنفهة المتبادلة والمساواة واحترام الآخر وثقافة الغيرواحترام الخصوصيات. لأن بقاء الحال الثقافية تراوح مكانها عجز يدل على أنها تبعد مع مرور الزمن عن التحديات الكبيرة التي يفترض أن تواجهها .