حتى لو فرضنا أنّ المعارضة شاركت في البرلمان القادم، وستدخل في مشاورات تشكيل "الحكومة النيابية" الموعودة، فإنّ السياسات الاقتصادية الجديدة !
(المرتبطة بالاتفاقية مع صندوق النقد الدولي) تتطلب مساراً موازياً، لا يقل أهمية عن السياسي، إن لم يكن يفوقه من زاوية الأهمية لدى المواطنين، فما بالك والمعارضة تغيب عن المجلس القادم، ما يضعف من قوته وحضوره عند إقرار السياسات الاقتصادية الجديدة!المسار الموازي المطلوب هو مسار معالجة الاختلالات الهيكلية في المعادلة الاقتصادية، وما ينتج عنها من غياب شبه مطلق للقطاع الخاص في المحافظات والمدن، وتنامي البطالة والفقر، وتزاوج ذلك مع مشاعر الحرمان الاجتماعي وصعود الفجوة الطبقية بوضوح، وبقاء نسبة كبيرة من سكان المحافظات عالة على الدولة.
هذا هو "الثقب الأسود" الكبير الذي يهدّد الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في المرحلة القادمة، ومنه تأتي كثير من الشرور، وهو ما يحتاج بالفعل إلى إطلاق مشروع وطني للإنقاذ حقيقي يكون بمثابة "نقطة تحوّل" جوهرية في المعادلة الاقتصادية من جهة، وما ينتج عنها في إعادة ترسيم العلاقة بين الدولة والمجتمع سياسياً – بالضرورة- من زاوية ثانية.
ما نسمعه من رجال الدولة ورجال أعمال فيه ظلم كبير لأبناء المحافظات، واختزال للمشكلة الاقتصادية المعقّدة، فهم يتحدثون عن عدم رغبة أبناء المحافظات في العمل في القطاع الخاص، ولا الخروج من إطار "ثقافة القطاع العام"، والاعتماد على المعادلة السياسية الراهنة للضغط على الدولة من أجل تأمين فرص عمل سهلة لهم!
وفي ظني أن هذا الحكم جائر ومتعسّف ضد الشباب في المحافظات. فمع الاعتراف بوجود هذه الثقافة بدرجة أقل من التضخيم الرسمي، فإنّ المسؤول عنها وعن هذه "العلاقة المشوّهة" هو السياسات الرسمية أولاً وأخيراً، التي انعكست في قانون الانتخاب، والنواب الذين يعزّزون هذه العلاقة!
وصلنا اليوم إلى أنّ لدينا في القطاع العام أعدادا هائلة من عمال المياومة وموظفي الفئة الرابعة، وبطالة مقنعة. أعداد هؤلاء الموظفين في الجامعات الحكومية هي أضعاف أعداد الكادر التدريسي نفسه، ما شكّل "واقعاً جديداً" لا يمكن التخلص منه، إلاّ عبر خلق فرص عمل أفضل في القطاع الخاص.
هي، إذن، عملية تحتاج إلى وقت وتخطيط، لكنّ لا بد أن نبدأ بها، ونعمل عليها، وإلاّ فإنّ النتائج الخاطئة ستتراكم ولن تحل المشكلة، فما يمكن أن يقدّمه القطاع العام اليوم من حوافز ومنح لا يرقى للقطاع الخاص، ما يعني أنّ الأزمة ستبقى قائمة بالرغم من كل الموارد المهدرة فيها.بالتزامن والتوازي مع تطبيق السياسات الاقتصادية الجديدة؛ لا بد من العمل على إزالة الاختلالات الهيكلية في المعادلة الاقتصادية، وفي مقدمة ذلك إطلاق مشروع وطني تنموي في المحافظات، لتأهيل العمالة فيها، ومنح حوافز كبيرة للقطاع الخاص.من الضروري أن يتضمن المشروع الوطني الموعود، وعوداً واضحة بتعليم نوعي متميز، أكاديمي وصناعي ومهني، وتعزيز البنية التحتية، وصناعة رسالة جديدة للدولة بأنّ الطريق إلى المستقبل يمر من هنا، عبر المواطنة والعمل والإنتاج وسيادة القانون، والاندماج في الدورة الاقتصادية، وأنّ العلاقة الزبونية مع الدولة انتهت إلى غير رجعة. مثل هذا المشروع الضخم يحتاج إلى مفكرين وخبراء في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والإعلام، ليكون بالفعل قادراً على تصحيح الأوضاع، وإنجاز المهمة الصعبة جداً، التي تواجه أحد أكبر التهديدات الداخلية. بالمناسبة قبل أكثر من عقد كتب الزميل منار الرشواني دراسة مهمة، ونشرت ككتاب عن "سياسات التكيف الهيكلي والاستقرار السياسي في الأردن"، وتوقع فيها بوضوح أنّ السياسات الاقتصادية الليبرالية ستكون التحدي الكبير للاستقرار السياسي الداخلي! (الغد)
m.aburumman@alghad.jo