معضلة الأمن والسياسة الخارجية للدول اليوم: الدين والتاريخ يدخلان الساحة السياسية الدولية ... بعنف!
انقلب مفهوم الامن وبالتحديد ومفهوم "التهديد" المباشر والغير مباشر رأسا على عقب مع انتهاء حقبة الحرب الباردة, لينتقل الخطر والتهديد الامني من حقبة "ما بين" الدول الى حقبة "في داخل" الدول بشكل ملحوظ. ومن مرحلة الاعبين الدول الى مرحلة الاعبين الغير دول بشكل أكبر. فخلال الحرب الباردة, كان الأمن موجها بشكل عام تجاه التهديد الخارجي, بين الدول "المتصارعة" وبين الجيوش المتنافرة, ومن هنا نشأت مفاهيم عدة تعكس الحال الاستراتيجي حينها ومن أهمها مفهوم سباق التسلح, وتوازن القوى, وتوازن الرعب, وسياسات الاحتواء, وسياسات الردع النووي, ومعضلة الأمن, واجراءات بناء الثقة (وذلك خوفا من اندلاع حرب عالمية ثالثة), وغيرها من المفاهيم والسياسات التي شكلت طبيعة العلاقات بين تلك الدول وبالأخص الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
و يعود هذا التحول في مفهوم الأمن, الى الفراغ الذي تركه السوفييت في ساحة السياسة الدوليه, فبعد ان دأبت الدول العظمى على دعم جميع الانظمه السياسية في العالم الثالث بغض النظر عن نوعية نظامها السياسي وخاصة الاستبدادية منها, لكسبها في الانضمام الى معسكرها, أصبحت الولايات المتحده القوه الأحادية القطب في العالم غير "مكترثه" كما في السابق في دعم هذه الدول خاصة الاستبدادية منها - ولكن باستثناء دول الشرق الاوسط خوفا من وصول "الاسلاميين" الى الحكم (Middle Eastern Exceptionalism). ويعود سبب "سياسة" عدم "الاكتراث" الى كون الخطر الشيوعي قد تلاشى ولا يوجد هنالك حاجة ماسة لتلك الدول كما في السابق لا سيما أن الولايات المتحدة تدرك أن هذه الدول", شاءت ام أبت, ستتجه بطريقه او باخرى - تفاديا للعزلة الدوليه ورضوخا "لاوامر" قوى العولمة الرأسمالية- نحو اليبراليه الاقتصادية و"الديموقراطية الرأسماليه لتبدأ مرحلة ما يسمى ب"نهاية التاريخ". ومنذ تلك الفتره, ومع بداية سياسة "عدم الاكتراث" بدعم الدول الاستبداديه, بدأنا نسمع أكثر عن حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل, حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من برامج الدول المانحة للمساعدات المشروطة وسياساتها الخارجية لتركيع الدول للاستفادة من "الصادرات الديموقرطيه"- بالتأكيد تأتي جدّية هذه المساعدات بما يتماشى بما يتماشى مع مصالح الدول المانحة لتلك الدول و الظرف الزمني.
في ظل هذا الفراغ الذي تركه "انهيار السوفييت" للدول وخاصة دول العالم الثالث, عادت الدول والشعوب الى الانشغال من جديد بنزاعاتها وقضاياها التي "جمدتها" حقبة الحرب الباردة وانشغالهم بهذا المعسكر أو ذلك. ومن هنا "استغل" التاريخ والثقافة (والدين بوجه التحديد) هذا الفراغ ليملأه, وليحدد هوية وشكل السياسات الخارجية والأمنية للدول على حد سواء, وكأن صور الثقافة والتاريخ بعثت من قبورها الى المسرح السياسي من جديد. فاندلعت الحروب الطائفيه على سبيل المثال في يوغسلافيا السابقه, ليس بين المسلمين والمسيحيين فحسب (الحرب "الأهلية" بين البوسنه والصرب) بل ايضا بين المسيحيين مع بعضهم البعض (بين الصرب/ الارثودكس و الكروات/ الكاثوليك) ناهيك عن الحروب والنزاعات التي حدثت في الشيشان وابخازيا وغيرها من مناطق المتباعدة الاطراف في "الاتحاد السوفييتي سابقا". وفي اوروبا الغربيه, اتضحت معالم الاخطار والتهديدات الامنيه المبنيه على الثقافة والدين, فظهر جليّا, اشكالية "الهويه" والمحافظة على الهوية العلمانيه, جراء تنامي شعور "الانتماء للهويه الدينيه" للاوروبيين المسلمين – بوجه التحديد- من اصول غير اوروبيه (المهاجرين الشرعيين والغير شرعيين), فانطلت على اثرها موجات من الساسيات "الامنيه" الاحترازيه و"الاستباقية" تجاه هولاء المجموعات خاصة السياسات المتعلة بزي المرأة (الحجاب والنقاب) والذبح الحلال, وبناء المساجد ومنارات المساجد, وغيرها من الاجراءات لحماية "الهوية" الاوروبيه والعلمانية على حد سواء. وخير مثال للسياسات الخارجيه لدول الاتحاد الاوروبي في هذا الاتجاه, تبنيهم "وتصديرهم" لما يسمى بالشراكة الاورومتوسطيه, والتي قد تبدو اقتصاديه في خطابها الا انها أمنية بكل ما تحملة الكلمة من معنى, ومن اهمها العمل على القضاء او تخفيف موجة الهجرة الغير شرعية الى اوروبا, لتفادي المزيد من اشكالية "الهويه" المتعاظمة من جهة والحفاظ على "الطابع" الاوروبي من جهة اخرى! ومن هنا كان تصريح السكرتير الأمين للناتو (Willy Claes) في عام 1995 "ان الاسلام حل محل الشيوعيه" كتهديد مباشر وحالي على الغرب, خير دليل على الاحساس بتنامي هذا الخطر. ويجدر الاشارة بنا هنا, ان نظرة الغرب ليس موجه الى الاسلام كدين وعقيدة بقدر ما ينظر اليه كفكر شمولي (مثل خطر الفكر الشيوعي علما بأن معظم أبناءه في الاتحاد السوفييتي السابق من المسيحيين) يهدد ويتحدى وينافس الفكر الراسمالي. على نقيض كثير من الاديان, فالدين الاسلامي لها ابعاد في الشأن الاقتصادي, السياسي والمالي والصحي والبنكي والتجاري والاجتماعي وحقوق الانسان والديمقراطيه والشورى وغيرها من الشؤون الدنيوية.
وعليه يتضح لدينا انه, وبالرغم من تعقيدات المرحلة الامنيه خلال الحرب الباردة وحلكتها, الا انها تعد "اسهل" حالا اذا ما قورنت بفترة ما بعد تلك حقبه الحرب الباردة. فمنذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم وبعد انهيار المعسكر السوفييتي, أصبح طبيعة التهديد للدول يتبلور ويتعاظم من الداخل وفي المجتمعات (وخاصة تلك المبنية على القوى الفكريه والدينيه) وينحسر ويتأكل من الخارج بين الدول والجيوش بالتحديد, وعليه أصبح سياسات الأمن تتحوّل بسرعة كبيرة من الأمن الخارجي الى الأمن الداخي "ليتاقلم" مع شكل ونوعية الوجه الجديد "للخطر والتهديد". وبالتالي انخفض التركيز في تعبئة الجيوش بالتزامن مع تعاظم التعبئه في قوات الدرك وقوات الأمن والأمن الوقائي والاستخبارات الداخليه وغيرها من الاجهزة الامنية.
ونستطيع أن نستخلص هنا أنه, وفي الوقت الذي كان فيه العدو "واضحا وجليّا" (جيوش ومعسكرات وقواعد الجيوش الاميركيه وكذلك السوفييتيه), اصبح "االعدو" اليوم غير ظاهرا وغير مرئي وقد يكون بين ظهرانينا يصول ويجول, حيث استقوت "القوة" الفكرية /الايديولوجية الامادية على القوة العسكرية والمادية والمحسوسة. فاستقوىت وتغلبت منذ تلك الفترة علوم الارهاب والاسخبارات على علوم الدراسات الاستراتيجيه والعسكريه, ضمن دراسات السياسية والعلاقات الدولية. وقد بلغ في بعض الباحثين "الطلب" في اعادة النظر في جدوى أهمية الدراسات الاستراتيجية (المبنية على القوة العسكرية) حيث تسائل البعض في جدوى الاسلحة النوويه في استئصال الارهاب, وما مدى أهميتها في افغانستان وفي ملاحقة بن لادن والقضاء عليه... ويفترضون أن جميع الاسلحة النوويه اصبحت عقيمه وغير نافذه في تحقيق الامن القومي لبلدانهم, وان تلك الاسلحة مجتمعة غير قادرة على هزيمة "فكر" شخص واحد أعزل من السلاح؟!
الخاتمة: ما علاقة "كل هذا" بشأن الأمن القومي الأردني؟!
بناء على ما تم ذكره اخرا, أصبحت كثير من الدول الغربيه, تحاول التصدي لهذه المشاكل ليس بالاسلحة النوويه, بل بالتأثير على الفكر والايدلوجيا لشعوب المنطقة, فاصبحت جلّ مساعداتها مشروطة بطريقه مباشرة أو غير مباشرة, لتصب في تغيير قيم المجتمعات تدريجيا وسلخ التاريخ والثقافة والدين عن جيلها, ومن هنا بدأ التحول والتغيير في المناهج الدراسية في كثير من دول المنطقه, ناهيك عن سلخ الغة العربية تدريجيا عن طلابنا وشبابنا وخاصة في المدارس في الوقت الذي ينهمكوا فيه على تعلم لغتنا وثقافتنا وديننا ليس حبا في المعرفة بقدر ما هو ... حبا في "السلاح"... في "الهجوم" و"الدفاع"!! ومن هنا لا نستغرب ان يجهل اكثر من 90% من طلاب جامعاتنا عن معلومات عامة تمس تاريخنا حتى الحديث منا وبالخص الحروب العربي وبالتحديد حرب حزيران 1967 في الوقت الذي يعرف أكثر من 80% من الطلاب الامركيين الذين يلهثون لدراسة اللغة العربية, رموز عربية واسلامية أمثال سيّد قطب!! ناهيكم عن كون المناهج التدرسية وبالتحديد في المدارس الخاصة تدرس "بجميع" اللغات وشيء من العربيه وكأن اللغة العربيه هي اللغة الاجنبيه المراد تدريسها للطالب الاردني! السلام الملكي, "يزف" حسب مزاج وسياسة كل مدرسة كل على هواه. الدين أصبح منهجا غير رئيس لمتطلبات النجاح العام والشامل. الاعياد الدينيه مثل الاسراء والمعراج أصبحت مثلها مثل عيد الهولوين بل أقل أهميه, وقد كانت في الماضي القصير عطلة رسميه, تذكرنا بطريقة مباشره أو غير مباشره بالقدس والاقصى, وكأنها سياسة مقصودة يراد طمس كل ثقافة اجيالنا من الذاكرة. القضية الفلسطسنيه, كانت من المواد الرئيسية والهامة في مناهجنا الدراسية خاصة لطبة التوجيهي, اما الان فقد اصبحت مهمشه ومتروكه لبرامج القنوات الفضائيه وأجنداتها!
وعليه, أصبحت ثقافة جيلنا اليوم مرهون بما تمليه فقط مزاج العائلة الفكري والتوجه الديني والثقافي للأب والأم, أو المخاطرة في التوجه الى الانترنت أو المصادر المجهولة لمىء فراغ "الشغف" المعرفي للطالب والشباب وهم للأسف بالقليل. وعليه, مع اضمحلال دور الثقافة والتاريخ بين الشباب, يوما ما بعد يوم, تعاظم ظاهرة العقليه الضيقة الفئويه و"العشائرية المنقوصة لتملأ الفراغ الفكري والعاطفي لهؤلاء الشباب, فضاق الافق وضاع الشباب, واشتعلت نيران العصبيه والفتن والمشاجرات. شبابنا اليوم, بكل جماله وعنفوانه, ضعيف هش فكريا وثقافيا ويسهل اختراقه من جميع النواحي والتيارات ومن هنا يكمن البعد الامني على الامد الطويل اذا ما استدركنا ذلك اليوم! الشباب لا يستطيع ان يواجه او ان يقاوم "هجمات" المبرمجه او غير المبرمجه التي تتعاظم كل يوم بين ظهرانيه.
ما المطلوب "منّا"!
أعتقد هنالك ضرورة ماسة على اعادة النظر في "تسييس" المناهج التدريسيه لتكون ليس فقط بتوجيه الجهات المختصة في وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي, بل ليمتد الى اسوار الاجهزة الامنيه وغير من الدوائر المعنيه بالامن "الثقافي والتعليمي" لما له أثر بالغ على أمننا القومي, لانه قد مضى زمن المجابهة "بالأجهزة والاسلحة", وتحول الى مجابهة خطر الفكر بالفكر والمنطق والثقافة والمعرفه من خلال اعادة بناء التربية والتعليم بشكل متوازن يضمن بلوغ قمة العصرية والحداثة وعلوم التكنولوجيه بالتوازي مع قوة هويتنا وثقافتنا وعلمنا بتاريخنا وارشيفنا ... كما يعرفه الخواجا عنا بكثير! يجب أن يكون مراكز ابحاث ودراسات في المراكز الامنيه التي تعنى بالشؤون الثقافيه, تضم صفوة من ضباط حملة الدراسات العليا ليكونوا صنّاع قرار أيضا, يدا بيد, مع صنّاع القرار في المؤسسات الاكاديميه. ومن هنا ايضا اتمنى ان يصاغ من الان ان ترسم سياسات تعنى بابراز اعلامنا الوطنيه, من "الموالاة" و"المعارضه" على حد سواء, ولتشمل ايضا المزارع والسياسي والاعلامي, والثقافي, الاقتصادي, والصناعي وحتى عامل النظافة ان تطلب الامر ذلك. يؤسفنا اننا لازلنا نذكر موتانا ورموزنا الا في بيوت العزاء والمقاهي وعند التجليات. ويؤسفنا ان ندرس ونعرف عن مارتن لوثر كنغ وجورج واشنطن اكثر مما نعرف عن صلاح الدين الايوبي وعيسى العوّام وجبران خليل جبران وغيرهم الكثير من ابناء وطننا وجلدتنا من تاريخنا المعاصر, فما الضير ان عرفنا عن جان جاك روسو وتولستوي بالتوازي مع تعلمنا عن رومزنا الوطنيه والقوميه والتاريخيه, عربيه كانت ام غير عربيه, مسلمة كانت او مسيحيه؟!! فحتى يتسنى لك الدفاع عن هويتك وذاتك ووطنك خاصة في اوقات الشدائد, وفي كل زمان ومكان, يجب ان تعرف وتتسلح بلغتك وحضارتك وارثك ... قبل فوات الاوان... هل من مستمع؟ هل من مجيب؟!