الدولة لا تغادر النفق..
كأنها، أو هي كذلك، حسمت أمرها، نهائيا، ولا ترغب في رؤية الحركة الإسلامية، دون سواها، في مجلس النواب المقبل، وهي نظريا وواقعيا تجمدت أوصالها السياسية عند مخاوف مبالغ فيها، وحسابات لم تقم على اساسات عميقة ودلالات أكيدة.
وليس أدل على هذا الحسم، غير المفهوم، من إغلاق عبدالله النسور بعد ساعات من تكليفه تشكيل الحكومة، الطريق أمام مراجعة قانون الانتخاب الجسر الذي كانت ستمر من فوقه الحركة الإسلامية والعديد من الحراكات الشعبية إلى المشاركة في الانتخابات.
وللإنصاف، فإن قيادات إسلامية، ومنذ انتهاء المسيرة الكبرى، دأبت على إرسال إشارات إيجابية عن إمكان جدولة المطالب الإصلاحية، إلاّ أنه لم يجر التقاط رسائل الحركة، أو، بلغة أدق، جرى تجاهلها.
وهذا ما دفع الإطار التنسيقي للإسلاميين، بعد تشكيل الحكومة، إلى إصدار موقف شديد الوضوح سحب إمكانية جدولة المطالب والإصرار إنفاذها قبل المشاركة، بعد فهم أن الأفق سد تماما أمام التفاهمات.
وهي (الحركة الإسلامية) أيقنت أنه لم يعد أمامها إلاّ الاستعداد لمرحلة طويلة من الاعتراض "السلمي" على نهج ومنهجية الإصلاح، واجتراح خيارات ضاغطة على صنّاع القرار تزيد من كلفة قرارات سياسية غير تشاركية.
وهو مسار، على ما فيه من أكلاف، بات خيار الاطر الرسمية نتيجة مخاوف من سيطرة الإسلاميين وحلفائهم، وحوزهم أغلبية مجلس النواب، بما يعنيه ذلك من تغيير إضطراري في تركيبة مجلس الأعيان وحكومة مفترض أن تكون منتجا برلمانيا، وأخيرا تعديلات دستورية حساسة.
عمليا، تلك المخاوف تحتاج إلى فحص عميق وتقييم موضوعي وصولا إلى خلاصات منطقية مؤسسة على إدراك دقيق لخصوصية الحالة الأردنية وفردتها ما تسقط معه كل أشكال المقاربة مع تجربتي مصر وتونس، إن دققنا في التفاصيل والتمايزات بينها.
أي حال ننتظر؟
للوهلة الأولى، لا يمكن قراءة مقبل الايام وأحداثها وسقوفها، لكنها بالضرورة لن تكون مريحة إذا استمر الاستعصاء والعقم السياسي، وحتى المؤسسة الرسمية والحراكات لا تتوافر على تقييمات دقيقة لطبيعة المرحلة المقبلة.
والأمر أشبه بمغامرة غير محسوبة، تثير تساؤلات جوهرية، إجاباتها رهن بالتطورات (...) ولا يملك أي طرف تصورات للسياق السياسي والأمني إذا جرت الانتخابات النيابية في ظل المقاطعة.
فليس منطقيا المراهنة على عامل الوقت، وسياسات تفكيك كفيلة بإخراج الحراك من الشارع أو في أقله ضبط منسوبه وسقوفه.
ويفترض بالمؤسسة الرسمية استيعاب أن التطور الطبيعي لأشكال الاحتجاج، عندما يكون الأمر مصيريا ووجوديا، لا تتراجع بل تتطور من الحالة البسيطة إلى المعقدة، ومن السهلة إلى الصعبة، ويمكن أن تفلت الأمور إذا طال أمد الأزمة وتعمق الاستعصاء، لأن طرفا ما سيفكر في خطوات حاسمة.
بمعنى، أن إجراء الانتخابات بدون مشاركة كل المكونات، مغامرة على المستويين السياسي والأمني، فخروج المعارضة من الشارع دون مكتسبات، ولو مجدولة، غير وارد ، واستمرار الحراك في الشارع له أكلاف مع غياب الأفق.
عندها ستكون المخاوف السياسية ليست ذات قيمة إذا حسبنا المحاذير الأمنية والسياسية لاستمرار الحراك، شعبيا وحزبيا، مع احتمال، يفترض أنه في الحسبان، تدخل فيه أطراف خارجية على خط الأزمة لتعميقها بنتيجة راهن إقليمي ملتهب.
ما الحل..؟
كان يفترض برئيس الوزراء عبد الله النسور أن يأتي بالحل، وأن يكون لديه تفويض للتحرك سياسيا وتشريعيا لإنتاج حل متفاهم عليه داخل مؤسسة الحكم، ومن ثم يتفاوض حوله مع المعارضة، غير أن ذلك لم يحدث.
فالتفاؤل، الذي رافق تكليف النسور تشكيل الحكومة، بإمكان حدوث إنفراج، انقلب إحباطا مع أول تصريح قطع الطريق على تعديل قانون الانتخاب من غير بدائل جوهرية وعميقة يمكن أن تبرد الأزمة الوطنية تهيئة لحل ما.
وبدا وكأن الرئيس النسور جاء ليدير حملة علاقات عامة، تقوم على المراوغة السياسية والإعلامية أكثر منها تقديم جسر للمعارضة لتعود عن مقاطعتها للانتخابات، وهو على ما يبدو، لا يملك أدوات تعينه على إدارة المرحلة..
فليس بيده إنهاء ملف معتقلي الحراك، ولا تجميد قانون المطبوعات ولا تعديل قانون الانتخاب، وهي مفاصل اساسيه وعصب حيوي في مسار الأزمة.
مع ذلك، إذا توافرت إرادة سياسية قائمة على تقييم عميق للواقع الوطني، يمكن أن تبدع مؤسسة الحكم مخرجا مرضيا لكل الأطراف.
فمنع تفاقم الأزمة إلى مستويات غير محمودة أهم بكثير من إجراء الانتخابات لمجلس نواب سيكون من يومه الأول فاقدا لجزء كبير من شرعيته السياسية والاجتماعية.
وهو ما يفترض أن يصعّد خيار تأجيل الانتخابات لمرحلة ملائمة متفاهم فيها بين مكونات الوطن على مسار إصلاحي مناسب، خصوصا إذا لاحظنا أن الحالة الوطنية لم تنتج طريقا أو بديلا ثالثا مقنعا، يوازن بين طرفي الأزمة المستحكمة.
وخيار تأجيل الانتخابات النيابية، يمكن أن يسبقه البحث في مخرج دستوري، ممكن ومتاح، برغم ضيق الوقت لتعديل قانون الانتخاب، بإضافة صوت ثان للناخب على مستوى الدائرة (صيغة حكومة عون الخصاونة) ومن ثم التفاهم على جدولة بقية المطالب الإصلاحية وترحيلها إلى المجلس النيابي المقبل.
ويمكن للحكومة أن تخلق بيئة مناسبة لإنفراجة وطنية، عبر تأكيد ضمانة نزاهة الانتخابات، والإفراج عن المعتقلين، ووقف الحملات التحريضية، وإلغاء التعيينات الأخيرة لحكومة الطراونة، وهذه كلها، مع تعديل قانون الانتخاب، وصفة وأرضية للخروج من المأزق.
أكثر من ذلك، المؤسسة الرسمية قادرة على بحث مخاوفها من توجهات الحركة الإسلامية، معها مباشرة، وأن تفكر في احتمال، تدركه الحركة جيدا، أنه من الصعب حشد تيار نيابي لتعديلات دستورية كبرى.
إجمالا، لن يكون بمقدور المؤسسة الرسمية التعايش مع حالة وطنية تقبل على غموض شديد تحفه المخاطر إذا ما اصرت على انتخابات نيابية بلا معارضة، بديلها الوحيد سيكون التمترس بالشارع.