برحيل مجلس النواب والحكومة, يعتقدُ المواطن أن مرحلةً جديدة قد أقبلت بكل ما تحمل من مُحفزات للتفاؤل ومُشهيات للاستمتاع بشكلٍ جديد من العلاقة مع المسؤول, تقوم على الحقوق والواجبات والهموم والمسؤوليات.
بهذا الرحيل المَهيب لا أعتقد أن ثمة ما سيتغير في هذه العلاقة غير المتكافئة بين المسؤول والمواطن, اللهم بأستثناء بعضٍ من التفاؤل المشوب بالحذر تجاه بعض الوجوه الجديدة ,التي تلمع في باديء الأمر ثم سرعان ما يتلاشى بريقها فتظهر ألوانها الحقيقية..
المشكلة في لغة التخاطب بين المسؤولين, كل المسؤولين, مع المواطن (الريسيفر)هي الجوامع والقواسم المشتركة التي لم تَعُد تُرى بالعين المجردة نظراً للفجوة الحادة التي تعتري هذه العلاقة بسبب تفاقم التوقعات وتدني الحقائق, ولأن خطاب المسؤول يتغير جملة وتفصيلاً بدوافع المنصب والنمرة الحمراء وأُبهة المكتب والمسؤوليات واللقب ومنافعه..؟!
منذ أيام أستوقفتني ملاحظة زميل في المواطنة, قال: أتعرف المسؤول الفلاني فعلاً أنهُ يفهم كثيراً و"دماغه كبير.." قلت: لماذا, فأجاب: لأنه بالفعل قال كلاماً كبيراً .."والله ما فهمنا منه شيء.. بس كلام كبير فعلاً ومهم..!!
ثم تكرر المشهد وكأن تزامناً ما قد تواطأ عبر عدة أحداث مشابهة ليقودني الى أن المسؤولين الأردنيين أو معظمهم على الأقل يقولون كلاماً كبيراً نكاد لا نفهمه..!!
آخرون تحدثوا عبر التلفزيونات المحلية, قالوا وحللوا وعلقوا وعبروا بتعابير عريضة وأستهلكوا الأمثلة والحكم, الشعر أحياناً والمقولات والعبر في أحيان كثيرة, لكننا في نهاية المطاف, لم نفهم عليهم في حوار الطرشان المتواصل على الإعلام وغيره بين المسؤولين والحالمين بالمناصب والمسؤولية..!!
بعض المسؤولين يسارعون بالإجابة على أسئلة الإعلام بأقصى حدة مطلوبه (لزوم) الهيبة, فيدَّعون أنهم حراس على مصالح الدولة العليا وأموالها, ويُشَّرِحون الوضع بمِبضَع المتعمق العارف ببواطن الأمور, ثم ما أن ينتهوا, حتى نتلمس ما بأيدينا فنراه سراباً..
آخرون يَعدون ويُسرفون بأستثمار رحابة السين, ب"سنعمل وسوف نحُل وسنؤدي.." ثم نعود إلى سراب العطشى في صحراء الفضاء الي يربطنا بهم نحن المواطنين المتعلقين بقشة القسم الجليل.."بأن أخدم الأمة" !!
وأنا أستمع الى تعليق المواطن المندهش بجرأة وذكاء المسؤول الكبير الذي يقول كلاماً كبيراً على التلفزيون, والثاني الذي قال أن الوزير الفلاني الشديد الأناقة قد أبدع في طروحاته التي لم نفهم منها شيئاً "بدليل أنه عميق وُمطلع", تذكرت مشهداً من فيلم السفارة في العمارة حين دخل أحد (المثقفين) ليهدي البطل كتاب مدينة البهائم وهو يحمل كتاب الحب في زمن الكوليرا, ويتحدث له عن "الديموغاغية الشديدة" ثم تأتي الرفيقة الدادا أم عطيات لتقول عن نفسها أنها مرجع الأدب الروسي ونموذج حي للبلوريتاريا الرثة, لم يفهم بطلنا من الحوار شيئاً.. لكنه خرج مقتنعاً أن هذا الكلام كبير وبالضرورة هو مهم.
نحن أمام مشهد مماثل يتحدث فيه وزراءنا ونوابنا ومسؤولنا بكل ما أوتوا من عبارات يتداولونها مع مستشاريهم ورفقاء الدواوين, ثم يكررونها على مسامعنا بقلب بارد, ليوهمونا بأننا محظوظون بهم, وبثقافتهم الواسعة وفهمهم الذي لا يُشق له غُبار.
الحقيقة أن علينا أن نعترف , بأننا في وادٍ وكل من يتولى أمرنا في وادٍ آخر, بل لعل الفجوة التي أصابت علاقة المسؤول بالمواطن الأردني بمقتل, قد أتسعت بشكل غير مسبوق على امتداد السنوات الماضية, التي تضخمت فيها ثروات المسؤولين وتهالكت ميزانيات الأسر العادية, وغاب حوار المسؤول المتسع الصدر مع حاجات المواطن..فغابت الثقة بلا عودة.
اطلعت على شبكة الإنترنت على دورات لعلها تُفيد في أزمة العلاقة بين المواطن والمسؤول, بعنوان "لمن يعاني من الكلام الغير المفهوم" دورات مكثقة ومتقدمة, وتساءلت كم سيكون لهذه الدورات من أثر على أداء مسؤولينا اذا ما انخرطوا بها, ثم عدت لأتأكد أنهم يُفضلون أصلاً أن يبقى كلامُهم غيرَ مفهوم حتى لايتجرأ المواطن على مناقشتهم أو حتى الإعتقاد بأنهم لا يعرفون..
الحقيقة ومن باب الكلام الكبير الذي لا يُفهم..تذكرت مقولة بطل الفيلم ذاته "خلقنا لنعترض" كما قال مكسيم غوركي..وتأكدت ان علينا أن ندرب أنفسنا من اليوم على فهم الكلام الكبير..
(الغد)