مع الأخوان في وسط عمان: كلام في الشكل لا في المضمون
احمد ابوخليل
06-10-2012 02:56 AM
** لقد اتبع المنظمون أسلوب المباعدة بين الصفوف، وهو ما يسهل العد بالنسبة لمتجول كثيف التجوال مثلي يوم أمس، ولكنه يعطي مشهداً مبالغاً فيه بالنسبة للناظر عن بعد من موقع ثابت، بما في ذلك بالنسبة للكاميرات ..
كغيري من المهتمين بشأن المسيرات، استيقظت صباح أمس متوتراً، ولأني من الغاضبين على الفريقين: الحكومة والإخوان معاً، فقد أضاف ذلك قدراً آخر من التوتر وربما الخوف، لقد أدت الحكومة خلال الأسبوع الماضي أداء سوف يترك أثراً سلبياً بعيد المدى، إن الحكومة استسهلت التضحية بالتركيبة الاجتماعية والسياسية للبلد الذي تحكمه. وبالمقابل أدى الإخوان أداءً له أثر سلبي لكنه أقصر مدى، إن الحكومة تخرّب على المستوى الاستراتيجي بينما يخرب بعض خصومها على المستوى التكتيكي.
خلال العامين الماضيين، حضرت أغلب المسيرات التي جرت في وسط عمان، ولم أقف يوماً مع الصحافة ولم أقدم نفسي كصحافي ولم أحمل أية إشارة تدل على صنعتي، ولكني لأول مرة بالأمس حرصت على اصطحاب بطاقتي في جيبي ثم حملت بيدي دفتراً وقلت في نفسي لعله يفيدني -الى جانب شيب رأسي- كاحتياط أمني في حالة الصدام الذي كان يخشاه الجميع.
قبل صلاة الظهر بحوالي ساعتين، وصلت الى أول وسط البلد من ناحية العبدلي، الأجواء مشدودة إلى أقصاها، فأسرعت هرولة بعد ان توقعت أن مشهداً أسخن أمامي، لكن الاقتراب من ساحة المسجد أوقف كل التوتر، لهذه اللحظة كان هناك تواجد أمني كثيف، لكن ساحة المسجد لم تكن تشهد اكتظاظاً، حيث كان يتواجد فيها بضع عشرات هنا ومثلهم هناك، وعدد من المنشغلين بالتجهيزات.
بدأ العدد يتزايد والكل يسأل عن التوقعات، وبدا أن سؤال "العدد"، أي عدد المشاركين، هو الذي يشغل الجميع: "بجمعوا، ما بجمعوا"، "بيجي ناس، ما بيجي ناس"، "ما هو العدد الكافي للنجاح؟".
لم تكن الاجابة على مسألة العدد ممكنة في اللحظات الأولى، وحتى مع قرب موعد الصلاة، بل مع بدئها بالفعل، كان المشهد أمام المسجد عادياً تماماً وقد لا يختلف عنه في باقي المسيرات باستثناء حجم التواجد الأمني، وعدد محطات البث التلفزيوني وصحونها الكبيرة، التي تقلق أنصار المسيرة وخصومها؛ فهي تقلق الأنصار إذا كان العدد قليلاً، وتقلق الخصوم إذا كان العدد كبيراً.
اتبع المنظمون تكتيكاً ناجحاً وموفقاً، فبعد أن كانت التوقعات بأن المسيرة أو التجمع سيكون ابتداءً من ساحة المسجد وصولاً الى ساحة النخيل غرباً باتجاه رأس العين، اختار المنظمون أن يوزعوا الحضور على الشوارع الثلاثة التي توصل الى المسجد، من الشمال والشرق والغرب، على أن يحضر المشاركون على شكل مسيرات منفردة تلتقي مع التجمع الرئيسي أمام المسجد، لكن التجمع الرئيسي لغاية انتهاء الصلاة لم يكن بالحجم "الرئيسي" المنطقي (مقاساً بالمقارنة مع الأرقام المتداولة مسبقاً للمشاركين)، لكن لا يجوز للوصول الى كامل الصورة الاكتفاء بهذه الملاحظة.
في الواقع كانت مسيرة الأمس ذات أجواء خاصة جداً من حيث مشاعر المشاركين بها، فيما يتصل بالحجم والعدد، فالمجموعات المتواجدة في المداخل الثلاثة كانت كبيرة نسبياً، ولكن كل تجمع منها كان يعتقد أن العدد الأكبر موجود في المواقع الأخرى.
لقد اتبع المنظمون أسلوب المباعدة بين الصفوف، وهو ما يسهل العد بالنسبة لمتجول كثيف التجوال مثلي يوم أمس، ولكنه يعطي مشهداً مبالغاً فيه بالنسبة للناظر عن بعد من موقع ثابت، بما في ذلك بالنسبة للكاميرات. إن الأرقام التي تم تداولها قبل وبعد المسيرة تستدعي تراصّ الصفوف لا تباعدها، وهي أيضاً أرقام لا تسمح بمد الأعلام الكبيرة أو القيام بأطواق بشرية مفرغة في منتصف الشارع.
ومع ذلك علينا أن نسجل أن المشاركين ساروا ثم وقفوا في صفوف من وضعية الأقدام مع الأقدام والأكتاف مع الأكتاف والقلوب مع المسيرة، وهذا أمر مهم يسجل لهم، فقد ظلت أنظار وآذان غالبيتهم متجهة نحو منصة الخطابة، وهذا ما كادت تفتقده مسيرات الأشهر الأخيرة لجميع التيارات التي تميزت بالكثير من الاسترخاء، كي لا نقل البلادة. إن مسيرة أمس كانت على هذا الصعيد ناجحة ومميزة بالفعل.
لاحظوا أنني لم أشفي غليل القارئ الذي يريد مني أن أذكر تقديري الرقمي للمشاركين، وفي الواقع لقد قمت بالعد التفصيلي وتجولت حول المسيرة من كل أطرافها أكثر من مرة، فأنا لا زلت أعتبر نفسي في حالة تمرين على البحث في تفاصيل المجتمع الأردني، واعتبر المسيرات والتجمعات المختلفة ميداناً خصباً لرصد العدد والمحتوى ومحاولة قراءة الوجوه.
هذه المرة من الصعب أن أفصح عن رقم، لأسباب تتعلق بالسيكولوجيا الاجتماعية للجمهور التي أحترمها وأقدرها في مثل هذه الظروف، وخاصة بالنظر الى طبيعة خصوم المسيرة، في الواقع لقد كنت واثقاً من صدق إحساس كل من ذكر أرقاماً يوم امس، وخاصة بالنسبة لأنصار المسيرة ومنظميها، لقد سمعت أرقاماً يقولها ناس صادقون ومخلصون بالفعل، والكل منهم يعتمد على مشهد واقعي رآه.
كنت في المسيرات السابقة توصلت الى معادلة حسابية فكاهية للتوصل الى الرقم الواقعي للمشاركين في المسيرات؛ وذلك بأن نقسم رقم أصحاب المسيرة على اثنين، ثم نضرب الرقم الذي تعترف به الحكومة في ثلاثة، ونأخذ معدل الرقمين الناتجين، لكني تخليت عن هذه المعادلة يوم أمس، بسبب تقديري للمصاعب التي عاناها المنظمون في الحساب.
غير أن علينا أن نسجل أن هناك انجازاً مهماً يسجل للأخوان:
لقد أقاموا تجمعاً منضبطاً إلى درجة كبيرة، وبلا تردد يمكن القول أن جهة أخرى غيرهم في البلد بما فيها الجهات الرسمية لا تستطيع القيام بذلك وبهذا المستوى، لقد بدأ نطاق التنظيم منسجماً في جميع المداخل الموصلة الى وسط البلد، وكانوا في حالة مراقبة وسيطرة على كل التفاصيل وأدوا عملهم بطريقة منظمة.
والمفاجأة التي يحسدون عليها (أو يغبطون عليها كما عدل لي صديق إخواني) تكمن في انضباط وهيبة التنظيم النسائي، فقد شاركت يوم أمس أكثر من ألفي شابة وسيدة تواجدن بصورة محترمة بعد أن توزعن على ثلاثة مواقع رئيسية.
ورغم أن عدد المشاركين الاجمالي تقلص مع مرور الوقت، (وهذا طبيعي)، غير أن بقاء عدة آلاف حتى النهاية واستمرارهم لمدة تزيد عن أربع ساعات، يسجل لهم أيضاً. وفي مجال التنظيم الخارجي يوم أمس لا بد وأن نلاحظ الأداء المحترم لأجهزة الأمن التي تحمل منتسبوها العناء بصمت مهيب، لكن الكلام هنا في الأساس يتعلق بالمسيرة ذاتها أو ما يمكن أن نسميه "مجتمع المسيرة".
قلت أن هذا "الكلام" يقتصر على الشكل لا على المضمون، فالمضمون فيما أرى يحدده عنصران: واحد سابق للمسيرة، لم يكن بتقديري موفقاً، والثاني لاحق لها يتعين على السلطة الاخوان أن ينتبهوا اليه جيداً، والله دائماً من وراء القصد.
العرب اليوم