المتاهة الأردنية: اليقين الوحيد هو اللايقين
د. موسى برهومة
01-10-2012 03:19 PM
أكثر ما يخطر في البال، في هذه اللحظة التي تشبه قنطرة استثنائية في الحياة السياسية الأردنية، رواية للكاتب الأردني الراحل مؤنس الرزاز عنوانها «متاهة الأعراب في ناطحاب السراب» والتي تكشف عبر صفحاتها الطويلة مسيرة من الهذيان وغياب اليقين، وتكسّر الأحلام على عتبات الوقائع القاسية والمبهمة في الوقت نفسه.
إن الرواية، كما الراهن، تنهمك في ترميم واقع، لكنها تتغافل عن الشروط الموضوعية لإنجاز ذلك الترميم. إنها تقفز بخفة، وربما بطيش عن تلك الأقانيم المحددة للنتائج المنطقية. إنها تعرف أن إشارة حمراء عريضة موضوعة في مقدم الطريق تشير إلى أنها غير نافدة، ومع ذلك يصر السائق على الولوج فيها حتى منتهاها، ليدرك حقاً، قبل أن يرتطم بالحائط الاستنادي، أن الإشارة السابقة لم تخدعه ولم تضلله، لكن السائق مولع بالمغامرة والتجريب!
المتاهة الأردنية في هذه اللحظة في أوجّها. ليس ثمة يقين في الحياة السياسية. اليقين الوحيد هو اللايقين. يندر أن نجد سياسياً أو رجل دولة عاملاً أو سابقاً أو مثقفاً يستطيع أن يعرف ما الذي سيحدث في اليوم التالي. إن البلد يغلي على مرجل الإشاعات. ومرد الأمر ليس رغبة السلطة وضعَ المجتمع في «حيْص بيْص»، وإنما تيه السلطة ذاتها، وتورطها في خيارات وسيناريوات كثيرة أحلاها مر.
الملك عبدالله الثاني أعلن أن الانتخابات ستُجرى نهاية العام الـحالي، والـحكومة وأجهزتـها في حـالة اسـتنـفار قصـوى من أجل التحضير لتلك اللحظة الفاصلة، وتحاول بما أوتيت من قوة أن يصل عدد المسجلين للانتخابات حاجز المليونين، وربما يصل إليه.
بيد أن المعضلة الأساسية تكمن في أمرين مهمين:
الأول: إن الانتخابات المقررة ستجرى، كما هو باد حتى هذه اللحظة في معزل عن أحزاب المعارضة وفي مقدمها «الإخوان المسلمون»، وبعض أحزاب المعارضة اليسارية والقومية، وغالبية تيارات الحراك الشعبي والسياسي والنقابات والمجتمع المدني. وهذا مأزق أمام النظام ما بعده مأزق. حتى إن بعضهم يتندر بالقول إذا كان البرلمان المقبل سيخلو من القوى المعارضة، ولن يؤسس لحياة سياسية مستقرة، فلماذا يُحلّ البرلمان الحالي مبكراً، ولماذا لا يكمل دورته العادية، ما دام «أن الخل أخو الخردل»؟!
أما الأمر الثاني، فله طبيعة لوجستية يفصح عنها دائماً رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات عبدالإله الخطيب الذي لا يتوقع أن تُجرى الانتخابات نهاية العام الحالي، لأنها تحتاج إلى تحضيرات تقتضي تأجيلها إلى مطلع العام المقبل، وربما إلى الربيع، ولعل هذا الأمر ما جعل الملك عبدالله يرهن تحديد موعد الانتخابات بقرار الخطيب.
ويستتبع الأمر الأخير أن تنتعش من جديد سوق الإشاعات والتكهنات، وبعضها متفائل يشير إلى أن هذه الفترة منذ الآن حتى العام المقبل قد تحدث انفراجة تمكن من إجراء تعديل على قانون الانتخاب يتيح للإسلاميين والقوى المعارضة المشاركة في الانتخابات وفق خريطة الطريق التي وضعها الملك، أخيراً، إذ أعرب عن أمله في أن يفضي البرلمان المقبل إلى حكومات برلمانية، وهو ما يستعصي تحقيقه في حال غاب الإسلاميون وقوى المعارضة عن المشهد.
أمام النظام الآن جهد كبير ومكثف وغير نمطي من أجل عدم إقصاء قوى المعارضة عن البرلمان المقبل، لأن في إقصائهم ومواصلة شيطنتهم والتحريض ضدهم ذهاباً إلى مواجهة مجانية، ومحاذاة لما يمكن أن يعد بمثابة «انتحار سياسي» لدولة تريد أن تقدم نموذجاً للإصلاح السلمي لا يعيد تكرار ما حدث في دول «الربيع العربي»، والفرصة مواتية لهذا النموذج السلمي الخلاق إذا توافرت الإرادة السياسية الحقيقية والجادة، وإذا صمتت «طبول الحرب التشويشية»، وكفّ التيار اليميني المهيمن، وأعداء الإصلاح عن وضع عصيهم في دواليب العربة التي يتوق الأردنيون جميعهم الى أن تعبر بر الأمان بلا أثمان باهظة!
* عن "الحياة" اللندنية