فوضى منظّمة
الفوضى المنظّمة، الفوضى المنظّمة هي التعبير الأقرب إلى وصف ما يجري في «العرس الوطنيّ» الأردنيّ. و قد يبعث التنازعُ بين اللفظتين («الفوضى» و «المنظّمة») على القلق و الاضطراب في سمع السامع و عين الرائي. لكنْ، إذا صدّقنا زعمَ الفيلسوف الفرنسيّ (برودون) في تعريف الفوضى؛ وسِعَنا الاطمئنانَ إلى انتفاء التنازع بين اللفظتيْن المذكورتيْن. فالفوضى، بحسب (برودون) ليست عكسَ النظام؛ بل هي ضربٌ منه. و ذاك بأنّ السادر في الفوضى يجري مجرى نظام مستتر على الناظر إليه مِنْ خارج. و النظام هذا، له «قانون» و «منطق». و هذان لا تصحّ الرؤيةُ إليهما سوى مِنْ داخل؛ و إلّا كان الامر خبطاً و رجماً بالغيب. و أصحاب الخبط و الرجم هؤلاء، ليسوا إلا «بائسين و يائسين، و نوّاحين و ندّابين، و يتسقّطون الأخطاء بالمجهر، و مجسّات التنصّت، و لا يَصْدُر عنهم إلّا الطلاسم»، على زعم أحد كتّاب التدخّل البطيء.«كتّاب التدخّل البطيء»
و كتّاب التدخّل البطيء هؤلاء، يختلفون عن زملائهم الذين جرت العادة على تسميتهم كتّابَ التدخل السريع؛ فالأواخر، في معظمهم، من فئة «الشباب»، و هم مِنْ طينة طيّعة؛ إذا قيل لهم كونوا كانوا. فيما الأوائل تجاوزت أعمارُهم السبعين، و «يتدخّلون» تطوّعاً و دون طلب من أحد؛ و لعلّ هذا هو مصدرُ وصْف «تَدخّلهم» بالبطيء؛ و البطء، هنا، على معنى الوقار و الأناة، اللتان تليقان بالعارفين المجرِّبين، و الشيوخ الحكماء. و هؤلاء، خلافاً ليفاعة الشباب و نزقه، يتريّثون قبل أنْ «يتدخّلوا»، فلئن «تدخّلوا»، كان ذلك على حين الأوقات الحرجة؛ لحمل «رسالة» أو «تقويم اعوجاج». و الاعوجاج هذا، ليس نقل الاصوات و شراؤها و بيعها، و لا هو قانون الصوت الواحد، الذي ترتّبَ عليه إنزالُ البشر منزلةَ الأنعام؛ جرّاء مصادرة حريّتهم في اختيار الحكومة من طريق الاقتراع المباشر. هذا كلّه ليس اعوجاجاً يستدعي التقويم في نظر أصحابنا. ما يستدعي النقد و النقض في نظرهم هو تحفّظ المتحفّظين على «العرس الوطنيّ الديمقراطيّ»، و منظمّات المجتمع المدنيّ، التي تنوي مراقبة «الانتخابات». و الحجّة في ذلك أنّ هذه المنظّمات مرتبطة بــ«جهات خارجيّة»، و هذا هو الهول بعينه؛ فأهل الخارج «أشرار»، حُكْماً و حصراً. و لكنّ البَلَه يبلغ ذروته حين وَصْفِ تلك المنظّمات بأنّها «دكاكين»، و اللفظة هذه هي عَوْد على بدء عادة عربيّة تحتقر التجارة، و توردها موردَ شتيمة؛ كالقول أنّ فلاناً «تاجر» أو «عميل» أو «وكيل» أو «زبون»؛ و هذا جهلٌ فاضحٌ، و سهوٌ عن دور التجارة عبر التاريخ في استيلاد الثقافة.
المجتمع غير جاهز للديمقراطيّة
و كائنةً ما كانت مسؤولية السلطات الرسميّة عن هذا الاهتراء، (و هي أسهمت بسهمٍ وافر فيه) يبقى أنّ المجتمع الأردنيّ غير جاهز للديمقراطيّة، على معناها الفكري و الثقافي، لا على معناها الصندوقيّ، إذا جازت النسبة؛ و ذاك بأنّ الديمقراطيّة هي تتويج لمسار طويل من القيم المتمدنة. و الاعتراف بالآخر هو بعض هذه القيم، و هذا الاعتراف يترتّب عليه قيمة عظيمة هي التسامح، و هذا الأخير، من غير شكّ، يختلف كثيراً عن المجاملة. و إذا كان جوهر الديمقراطيّة هو الحريّة و الاختيار، اقتضى ذلك وجودَ مواطنين أفراد، فخورين بفرديّتهم، طامحين لتعزيزها. و لا ريب أنّ وجود طبقة وسطى هو واسطةُ عقد الديمقراطية. و الطبقى الوسطى على المعنى الثقافيّ، و ليس بوصفها امتلاكاً لــ«ثلاجات و غسّالات»، على ما يعتقد البعض. و القيم هذه، كلاً و جميعاً، تقوم من الديمقراطية مقام السُّلَّم. و لمّا كانت هذه القيم غير موجودة أو في أحسن التقديرات محطّمة، جاز القول أنّ كلّ ما يجري لا علاقة له بالديمقراطيّة، من غير تعسّف أو افتئات.
«رائع»، لكنّه ليس ديمقراطيّة
فإذا أضفنا إلى كلّّ ذلك ركاكة «النخبة» الثقافية و انتهازيّة «النخبة» السياسيّة، اكتملت اللوحة الكالحة لــ«الديمقراطيّة الأردنيّة». هكذا تضافر التسلّط الحكوميّ، و التخلف المجتمعيّ، و ركاكة و انتهازيّة النخب، كلاً من موقعه، في صياغة واقع بائس يُراد لنا أنْ نصدِّق أنّه بوابة العبور إلى المستقبل. و لكنْ يبقى هناك بعض الأشياء الإيجابيّة التي جَهَرَ بها هذا «الحراك الديمقراطيّ»؛ و منها أنّ «الإصلاح» كذبة كبيرة، (و هو ما يحثّنا على البحث عن سُبُلٍ جديدة للإصلاح) و أنّ الدولة ليست في وارد المساعدة في تأسيس ديمقراطيّة حقيقيّة و حكومة برلمانيّة، لا في قريب عاجل، و لا في بعيد آجل. و منها، كذلك، سريان بعض النشاط الاقتصاديّ في البلاد، لا سيّما من طريق إعلانان الصحف، و هذه، مِنْ دون ريب، لا تستطيب طعاماً كما تستطيب الإعلانات. و هذا كلّه «رائع»، شريطةَ ألّا يسمّى «ديمقراطيّة». و هو إلى ذلك، «بديع»، لكنّه مُرْسَل، و لا يراكِم، و لا يبني، و لا يُبنى عليه، لتعسنا جميعاً.
hishamm126@hotmail.com