عمون - نحن على ما نحن، وبكل الجعجعة التي نملأ بها فضاءات الإعلام ودواوين الحكايات اليومية والمجالس، ما نزال نُصدم ثم لا نكاد أن نقف على أرجلنا من الصدمة حتى تفاجئنا الصدمة التالية، فنُصدم ونبقى نُصدم، وكأننا قطع من جليد لا نتعظ من الصدمة ولا نتوقف عن الإحساس بالمفاجأة رغم يقيننا أن صدمة أخرى آتية لا محالة.
لا نحن آمنا بضرورة تعلم الدرس ولا تعودنا على وقع الحوادث على أعصابنا لكي لا تصدمنا، بل عجزنا حتى عن دفع الأخبار التي تصدمنا.
نحن الذين نُصعق بشكل دوري يقترب إلى النمطية الزمنية المحسوبة بدقة، وكأنها أحداث ومناسبات تأخذ مكانها بثقة على التقاويم السنوية؛ مثل الأعياد الوطنية وعيد الفطر ويوم عرفة وعيد العمال والأم والشجرة.
بدون أن تضمها صفحات التقويم السنوي، نحن على موعد متواصل مع أحداث من فصيلة؛ تدهور سيارة فارهة تضم أربعة شباب في مقتبل العمر، كانوا في طريقهم للاحتفال بنتائج التوجيهي.
أو وفاة ثلاثة شباب في العشرين وفتاتين، في انقلاب سيارة كانت مسرعة على الطريق الجنوبي للعقبة، كانوا في طريقهم لمنطقة تالا بيه للاحتفال بنهاية الفصل الجامعي، أو لعله من شاكلة عشرات الحوادث التي انتهى أمرها بوفاة شباب في أول عمرهم على طريق المطار بسبب فقدان السيطرة، أو السرعة الزائدة، أو تدهور سيارتين لمجموعة واحدة من الأصدقاء كانوا يتسابقون عند الشارع الجديد المؤدي من مرج الحمام إلى عبدون.
ثم آخر الصرعات؛ موجات من الشباب (المتأمرك) المتعمم بعصبات الرأس المزركشة على دراجاتهم النارية التي تنفق الواحدة منها على تعليم عشرين شاباً من المتفوقين الذين خانتهم ظروف أسرهم وقصور أنظمة التعليم، في الجامعات.
هؤلاء لهم عالمهم الخاص بكل مظاهره وترفه وعقده، حيث لا سائل ولا مسؤول، وحيث بذخ الآباء ورفاهية الأبناء تحت "بنديرة" الملل والبحث عن كل ما هو جديد وتقليد أفلام العصابات الأميركية، وحيث الضحايا بالجملة، مثل الأفلام أيضاً.
في العالم تحصد الطرق مليونا ونصف مليون إنسان سنويا، وفي الأردن نضطلع بمكانة متقدمة في ترتيب دول العالم المنكوبة، والدراسات تُلمح إلى زيادة متواصلة رغماً عن كل حملات التوعية والإعلام.
هذا عن الأرقام، أما عن الشكل، فلعلنا في الأردن وبعض قليل من إخوتنا، ننفرد بخصوصية الحادث المتكرر شكلاً ومضموناً وتزامنه الدائم مع مناسبات أصبح مجرد ذكرها يؤدي بنا إلى التنبؤ به.
نحن فقط بين شعوب الأرض قاطبة، من يموت وهو يحتفل بمناسبات وأفراح وليال ملاح، فترانا نموت على الطرق ونفقد شبابنا وهم في غمرة فرحهم، ونموت ونحن نحتفل في أعراسنا وحفلات زفافنا وفوزنا بالانتخابات (حتى وإن كان تزويراً)، وفي أوج فرحنا بنتائج التوجيهي أو عودة ابننا الدكتور من بريطانيا بشهادته الكبيرة. نحن من نصنع صدمتنا ثم نُصدم بدون أن ندرس أسباب الظاهرة الخلاقة، المُمعنة في البؤس، وبدون أن نعي أن أزمتنا على الطرق أولا هي أزمة أخلاق.
فكيف لنا أن ننسى في قائمة أولوياتنا الطويلة زرع بذور الأخلاق والمسؤولية في شرايين أبنائنا، وأن نتوقع عكس ما نراه من استهتار وجهل واستسهال وضحالة.
وكيف لنا أن نرى أن الحكومة ما تزال تقدم مخالفة السائق وإحكام كمائن الرادار على إيجاد علاقة وثيقة مع الطرق ومن عليها، وبناء جسور ثقة مع الناس، وأن ننتظر مشهداً آخر غير دماء ندية يتواصل نزفُها في المناسبات والأعياد على الإسفلت.
"الغد"