كنا صغارا، في الصفوف الإعدادية، وكان الأساتذة يرعبوننا. وكان أكثرهم إرعابا معلم اللغة الإنجليزية، إذ كان يتمتع بشخصية عُرفية؛ لا يضحك للرغيف الساخن، ولا تفارق يده عصا الرمان الممشوقة جيدا التي كان يعتني بها يوميا، وفق ما كان يظهر.
كان يضربنا بشدة، ليس بسبب تقصير في التعلم، وإنما لمجرد سماعه صوتنا وهو في الغرفة المجاورة. فكان إذا عبر الممر وسمع صوت أحدنا، يقوم بضرب كامل الصف (المذنب والبريء)، وأحيانا تصل الأمور حد "الفلقة"؛ وهي طريقة قديمة للتأديب كانت متبعة عند مدرسين، تقوم على رفع القدمين وضربهما بشدة لأكثر من 20 مرة متتالية، إضافة إلى طرق أخرى.
رغم ذلك، وما كنا نعانيه من آثار ضربه لنا، ومن عصاه شديدة التأثير في جلودنا، كنا نبتكر طرقا مختلفة لإثارة الشغب في الصف دون الاكتراث لما سيحصل لاحقا. إذ لم نعبأ لعصاه كثيرا، وكنا نطرب عندما نرفع له راية التحدي؛ فكنا نلهو عند أول التفاتة له باتجاه اللوح. وأحيانا كان يدخل علينا الصف وصوتنا يصم أذنيه، دون أن نفكر ماذا سيحل بنا من عصاه.
مقابل تلك الصورة، كان معلم اللغة العربية ذو شخصية هادئة، متزنة، يؤنبنا بأدب (نعم بأدب) دون أن يحمل عصا. ولا أذكر أننا (أنا وأبناء صفي) قد رأيناه يستخدم العصا يوما. وأذكر أنه كان يتحدث معنا بلغة العقل والقلب، فكنا لا نتفوه ببنت شفة أثناء حصته المقررة، ويدخل علينا الصف ليجدنا مؤدبين في انتظاره.
كان يخاطب عقولنا، فيصلنا ما يقوله فورا وبدون استئذان، ويعمل على الوصول إلى قلوبنا فيقول "إن الأستاذ أب وأخ، وصديق ومرب ومعلم. ولكنني لست ملقنا لكم وأرفض أن أكون. فأنا أريد أن تحبوني لشخصي، ولا أريد أن ترعبكم عصاي".
كان يقول "سأخبركم أنني غاضب شفاهة عندما أشعر أنكم أغضبتموني، ولن استخدم أي عصا للتأنيب، فأنا معلم وأستاذ ولست جلادا وملقنا". فكنا نستوعب ما يقول بشكل تلقائي بدون أن يعود ويشرح، وكنا نخجل أن تخرج منا حركة في الصف أثناء كلامه وشرحه للدرس. وإن حدث وخرجت من أحدنا حركة معينة، نقوم لاحقا بتأنيب زميلنا على ذلك.
كبرنا، وكبرت أجيال قبلنا وأجيال بعدنا، وكل جيل كان يؤكد للآخر أن احترامه لمعلم اللغة العربية يفوق مرات مضاعفة احترامه لمعلم اللغة الإنجليزية، إذ كان الكل يُجمع على أن معلم العربي الهادئ كان فعلا مربيا وأستاذا، فيما كان معلم الإنجليزي ملقنا، وأحيانا كان ينظر إليه بعضنا باعتباره جلادا، يستمتع بالضرب والتعذيب والاستبداد.
ما حصل مع أستاذي الإنجليزي والعربي كان يحدث في كل مراحل تطورنا لاحقا؛ فقد صادفت في الحياة العملية، وفي أكثر من مرة، كثيرا من الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أساتذة ومعلمون، وهم في حقيقة الأمر جلادون وعرفيون ودكتاتوريون.
وهؤلاء يعتقدون أن الزمان زمانهم، ولديهم القدرة على خلط الحابل بالنابل؛ فكم من فاسد يتحدث يوميا عن شرفاء، وهو يعرف في قرارة نفسه أنه فاسد، ويعرف أن الناس تعرف عطاياه من أين حصل عليها، وتعرف رواتبه من أين تأتي.
وفي السياسة، فإن مشكلة سواد العاملين فيها في بلادنا كأستاذ الإنجليزي؛ إذ إنهم يعتقدون أنهم يفيدوننا ويعلموننا، ولكنهم في حقيقة الأمر ليسوا أكثر من جلادين وملقنين وعرفيين وسطحيين. يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة وغيرهم لا يعرف شيئا، وهم في حقيقة أمرهم فارغون من الداخل، لا تسيطر على رؤوسهم إلا لغة القمع والضرب والبطش والجلد.
رفقا بعقولنا، فنحن نعرف ونتذكر جيدا حتى الآن. والحقيقة ستنجلي يوما. وإن الناس تعرف يقينا الغث من السمين. وإن تاه البعض، فإنه يتوه ولكن قليلا، ثم يعتذر لاحقا. ولا يمكن مهما فعلت قوى الشد العكسي ومن يواليهم خلط الصالح بالطالح والفاسد بالشريف.
jihad.mansi@alghad.jo
الغد