إشكاليات وتحديات الحالة الأردنية «رؤى وحلول»
أ.د. أمين مشاقبة
18-09-2012 03:35 PM
عمون - تواجه الدولة الأردنية العديد من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحالة من التفكك المجتمعي والنكوص الاجتماعي وحالة عالية من الإحباط السياسي، وضعف المؤسسات في تأدية دورها، وانعدام هيبة الدولة أحياناً، وفقدان الثقة بالمؤسسات، بالإضافة إلى جملة التحديات الاقتصادية التي تمس حياة المواطن، لكن وضوح الرؤية لدى القيادة التي تسعى جاهدة للخروج من هذه التحديات وعلى الأقل كبح جماحها؛ كي لا تتفاقم أكثر، فالقيادة تملك رؤية واضحة في عملية الإصلاح الشامل ولديها خطة طموحة للانتقال بالدولة ومكوناتها إلى دولة محدثة ونظام ديمقراطي حديث يقوم على حكومات برلمانية منتخبة شعبياً تجسد مبدأ الأمة مصدر السلطات، وتحقق العدل والمساواة والحرية وتوسع من قاعدة المشاركة السياسية، وقد حدد الملك ملامح المرحلة الإصلاحية من خلال برلمان وانتخابات حرة ونزيهة وعادلة وحكومة ذات طابع برلماني مع بداية العام الجديد. وعليه فإن المطلوب من كل القوى السياسية والاجتماعية الانخراط في العملية السياسية لتحقيق رؤية الملك الطموحة والجادة للارتقاء بالأردن إلى مصاف الدول الحديثة بعد أن تم تعديل أكثر من ثلث مواد الدستور، وتم إنجاز جملة التعديلات القانونية الناظمة للعملية الديمقراطية مثل: قانون الانتخاب، وقانون الهيئة المستقلة للانتخاب، وقانون المحكمة الدستورية، وقانون الأحزاب.
وبذا تكون البنية القانونية للحياة الديمقراطية أنجزت وهذا يتطلب من كافة المكونات السياسية والاجتماعية الانخراط بفاعلية في العملية السياسية القادمة ومن أراد أن يغير بالطرق القانونية السلمية والديمقراطية فعليه العمل من داخل النظام لا من خارجه، وأن ينظر إلى المصلحة الوطنية العليا للدولة، بعيداً عن المصالح والمنافع الخاصة أو الجهوية أو الانتماءات الضيقة، وأن يحدد وعي المواطن من يريد على أسس المصلحة العامة.
ما من شك أن الحالة الأردنية قد تأثرت بالربيع العربي الذي حصل في العديد من دول الإقليم، وأن التغيرات هذه ألقت بظلالها على الحالة وأثرت على روحية الفرد ومطالبته بسقف عالٍ من الحرية أدى أحياناً لحالات انفلات، لكن النظام السياسي الأردني ومن خلال مؤسساته يتفاعل مع الحدث بأسلوب واقعي وعملي بعيداً عن العنف أو استخدامات القوة محاولاً استيعاب واحتواء المطالب والتوقعات ضمن الإمكانيات وفي سياق التحليل السياسي الواقعي، فمن الممكن القول: إن الحالة الأردنية شهدت حراكين، الحراك الأول: حراك سياسي يطالب الإسراع بالعملية السياسية ومحاربة الفساد وتحقيق النزاهة ورفض الصوت الواحد واعتماد مبدأ التمثيل النسبي مناصفة، والتوسع في تقليص صلاحيات الملك الدستورية تقوده الحركة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين) ووجهها السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي، وبعض القوى السياسية القومية واليسارية، ومجموعات الحراكات الشعبية السياسية.
إن هذا الحراك يرفض مبدأ التدرج في العملية الإصلاحية ويريد تحقيق مطالبه كشروط مفروضة على النظام قبل البدء بالعملية السياسية، ويرغب بالحصول على مزيد من التنازلات قبل أن يقدم شيئاً ملموساً وعملياً، وباعتقادنا أن هذا الحراك يجب التحاور معه بجدية على أساس مبدأ المساومة، «الأخذ والعطاء»، «والمشاركة لا المغالبة»، ورغبة النظام في إشراك الجميع بالعملية السياسية دون الرغبة في إقصاء أحد، أو بقائه منفرداً في الشارع، فالواقعية السياسية مطلوبة من قادة هذا التيار في التعامل مع الحالة الأردنية لأن الأساس العملي والقانوني قد وضع لمسار الإصلاح الحقيقي في بنية الدولة وأن الدولة ترفض مبدأ التطرف والغلو أو اللجوء للعنف الذي لا أحد يرغبه، وفي نفس الوقت فإن المطلوب من الحكومة تجسير الهوة، والدفع باتجاه الحوار المبني على المصالح الوطنية العليا، لأن الإرادة السياسية في الدولة ترغب في إشراك الجميع في العملية السياسية دون إقصاء لأحد إلا من أراد أن يكون كذلك. .
أما الحراك الثاني: فهو الحراك الشعبي المطالبي الخدمي، وهو موجود في أكثر من منطقة يظهر أحياناً بشدة خصوصاً في أوقات الأزمات ويتقلص أحياناً أخرى، وباعتقادنا أن هذا النوع من الحراك يجب معالجته من خلال تقديم المطالب الأساسية والملحة للمواطنين مثل خدمات الماء، والكهرباء، وتحسين الأجور، وتحسين المستوى المعيشي، وتحسين الخدمات الصحية، والتوظيف، ومعالجة قضايا الفقر، إلى غير ذلك. والدور بالحل يعود على الحكومات ومؤسساتها التي تراجع دورها خصوصاً في السنوات الأخيرة. إن فاعلية الحكومات مطلوبة اليوم أكثر مما مضى، والعمل الميداني ومواجهة التحديات أمر لا مفر منه، إذا أردنا المعالجة الحقيقية لجوهر المشاكل. وعليه، فإن تفعيل دور الوزارات المتخصصة والخدمية في مواجهة التحديات أمر لا مناص منه لمعالجة كافة الاختلالات الحاصلة في العديد من محافظات الوطن. إن إعادة ثقة المواطن بالمؤسسات ودورها يتطلب جهداً إضافياً من قبل كل القائمين على السلطة.
إن إحدى الإشكاليات التي تواجه النظام في بنيته هي كثرة التغيرات الوزارية والتعديلات إذ لا يتجاوز متوسط عمر الوزارة الواحدة تسعة أشهر وبالعام الواحد تكون هناك ثلاث وزارات، وبذا تكون وزارات تسيير أحوال لا وزارات تصدٍ وحل للأزمات وتصبح جزءاً من المشكلة بدل من الحل، ناهيك عن غياب المعايير الدقيقة لاختيار الطاقم الوزاري مثل القدرة، والكفاءة، والخبرة، والخلفية الاجتماعية، ومعرفة التحديات التي تواجه الدولة، وأحياناً يدخل ويخرج الوزير ولا تدري لماذا دخل؟ وكيف ولماذا خرج؟ وهذا يدفع إلى القول إلى ضرورة اعتماد معايير حقيقية في عملية الاختيار.
إن هذه الإشكالية زادت من مستوى الترهل الإداري والفساد وقللت مستوى الإنجاز وعمقت المحسوبية، والوساطة، والشخصنة، والشللية، وخدمة المصالح الذاتية الضيقة على حساب خدمة الوطن ومصالحه، وهذه الإشكالية تتطلب المعالجة من حيث إيجاد المعايير الدقيقة والمقبولة للاختيار والسعي لإيجاد حكومات تعمر أكثر من المتوسط الحسابي الحالي حتى يُسعف الوقت لمحاسبتها ومساءلتها، وتكون فاعلة وعملية في مواجهة التحديات التي تواجه الدولة وتكون قادرة على وضع الحلول على أرض الواقع بدلاً من التنظير الذي لا يجدي نفعاً.
إن تراجع هيبة الدولة بمؤسساتها المختلفة يعود لعدة أسباب منها الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية، فالحرية أساسية ولكنها تقوم على مبدأ المسؤولية واحترام النظام العام، والسبب الآخر يعود لضعف المؤسسات في مواجهة التحديات والمطالب، وعدم قيامها بدورها وفقدان الثقة بها وبقدرتها. كذلك عدم قدرتها على إيجاد الحلول المناسبة والعادلة، عامل مهم في حالة التراجع، بالإضافة إلى غياب العدالة، ومبدأ سيادة القانون وتفشي المحسوبية والواسطة والفساد وانتشار دور المتنفذين، إن استعادة هيبة الدولة تتطلب إعلاء مبدأ سيادة القانون وتحقيق القدر الأكبر من العدالة والمساواة والانصاف في التعامل مع المكونات الاجتماعية لكي يأخذ كل صاحب حق حقه، ناهيك عن أهمية إضعاف دور مراكز القوى في بنية الدولة، ويضاف إلى ذلك ضرورة تناغم مؤسسات القرار السياسي في الدولة والتقائها على المصالح الوطنية العليا، وتقليص درجة التصارعية التي تحدث من حين لآخر، وإعلاء التوافق بين تلك المؤسسات ووضع الحلول المناسبة للتحديات ليصار إلى تطبيقها.
أما الإشكالية الأهم فهي تزايد الانتماءات الضيقة على حساب الانتماء للدولة والولاء للنظام والذي هو شرط أساس من شروط توافر الديمقراطية، إن ضعف مؤسسات الدولة، وتراجع هيبتها، وضعف مؤسسات المجتمع المدني أدى لحالة النكوص الاجتماعي والعودة إلى المكونات الاجتماعية التقليدية: القبيلة، العشيرة، العائلة للاحتماء بها في مواجهة مؤسسات الدولة، إن استعادة الانتماء للدولة، والولاء للنظام السياسي يتطلب إعادة النظر في منظومة القيم الاجتماعية السائدة وهو بحد ذاته ركن أساس من أركان الإصلاح السياسي، ويتطلب تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية مثل: الأسرة، المدرسة، الجامعة، الأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية وغيرها.
أما فيما يتعلق في بنية النظام السياسي وقاعدته الدستورية فإن ما جرى عليه من تعديلات أدى إلى فقدان التوازن بين السلطات، فمن المعروف أن الأنظمة البرلمانية تقوم على مبدأ توازن السلطات وخصوصاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وقد أُخل في هذا المبدأ وأعطيت صلاحيات عديدة للسلطة التشريعية على حساب التنفيذية تخالف المبدأ السابق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن القول بأن الحكومة التي تحل مجلس النواب وجبت عليها الاستقالة بعد أسبوع من تاريخ الحل، فالأصل في النظم البرلمانية أن الحكومة تملك حق التنسيب للملك بالحل، ويقابل ذلك حق «التشريعية» بسحب الثقة من الحكومة وهذان حقان يقابل كُل منهما الآخر ولا يجوز الإخلال بهذا المبدأ، فكيف تعطي السلطة التشريعية الحق بحل الحكومة التي تنسب بحل البرلمان؟ إذن هي عقوبة تدفع الحكومة بعدم اتخاذ مثل هذا التنسيب أحياناً، ويضاف إلى ذلك أنه لا يجوز تكليف رئيس الحكومة المنحلة بتشكيل الحكومة التي تليها فهذا شرط آخر يقيد صلاحيات الملك الواردة في المادة 35 من الدستور، وعليه فإن مثل هذا التعديل المخالف لمبدأ التوازن بين السلطات لا بد من تعديله وإعادة الأمور إلى نصابها كما هو معمول به في كل الأنظمة البرلمانية في العالم، وبعد الإطلاع على جميع الأنظمة السياسية المطبقة عالمياً من برلمانية أو مختلطة وغيرها إذ لا يوجد مثل هذا النص إلا لدينا فقط. وعليه فإن المشروع قد أخطأ خطئاً جسيماً بزج مثل هذا التعديل غير المعمول به في أي نظام سياسي آخر.
إن تشكيل الحكومات البرلمانية يتطلب وجود أحزاب سياسية قادرة في الوصول للأغلبية البرلمانية من خلال الانتخابات التي تجري على هذا الأساس، أو ائتلاف عدة أحزاب سياسية للوصول للأغلبية المطلقة (50% +1) وتشكل حكومة ائتلافية، أما في الحالة الأردنية الراهنة فإنه من الصعوبة بمكان تحقيق ذلك، فسوف يلجأ إلى ائتلاف الكتل البرلمانية والوصول إلى الأغلبية وتشكيل الحكومة، لكن المشكلة تكمن في ضعف وهلامية الكتل البرلمانية لأنها لا تشكل على أسس فكرية، أو برامج واضحة ومحددة وإنما على أسس شخصية ومصلحية فيقود هذا إلى إنهيار الكتل سريعاً وانفراط عقدها؛ ما يؤدي إلى سقوط الحكومات. إن التجربة الأردنية في توزير أعضاء السلطة التشريعية وبالذات مجلس النواب قد فشلت وخصوصاً عندما تم التوسع في توزير النواب في الأعوام 1996-1997، وعليه فإن إعادة التجربة السابقة تتطلب دراسة أعمق وتحديد معايير دقيقة، وباعتقادنا أن الحالة الأردنية في تشكيل حكومات برلمانية في المستقبل تتطلب الأخذ بمبدأ التدرج وعدم التسرع خوفاً من الوقوع في نفس الأخطاء السابقة. وأخيراً وليس آخراً، إن استمرار النظم السياسية يعتمد على درجة التكيف السياسي مع المطالب والتوقعات والمتغيرات المتسارعة، فكلما كان النظام السياسي قادراً على استيعاب المطالب والتوقعات وقدرته في التعامل معها بجدية وفاعلية يكون قادراً على الاستمرار، وعليه فإن النظام السياسي الأردني يتكيف تدريجياً مع المتغيرات المتسارعة وأن منظومة الإصلاحات الشاملة دليل واضح على ذلك، لكن الأمر يتطلب مزيداً من الفعالية بأداء متميز وسرعة في الإنجاز، حيث إن البطء والتأخير في إنجاز الإصلاحات يضعفان درجة التكيف السياسي، ويضعان النظام في النقطة الحرجة.
"الدستور"