سامر محمد العبادي
كنت قد هربت من قراءه فلسفه المفكر العربي , عروبي الفكر محمد عابد الجابري , في مناقشاته للعلاقه الجدليه و الحاجه لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة و العروبة و الإسلام , محاولاً كعادته تفكيك التشابك و اعادة شرحه , و العودة به الى ينابيعه الأولى .
امعاناً في هذه المتوالية و خروجاً منها , و حيث سرقني التأمل , في حالة التهاوي التي نعيشها , و في ذاك الخطاب العربي الذي يحاول الخروج الى رحم التاريخ , و ان حاول " التعكز "على تيارات لا تملك رؤية مستقبلية بقدر امتلاكها رؤية " ماضوية " ترى : الى أين يسير العرب الذين كلما نفضت الحضارة عنهم غبارها , عادوا بعد جيل يغرقون في قدرهم ؟
كانت أوراق أيلول تتساقط , و تتلاعب بها الرياح حاملة النزر اليسير من النسائم التي امتطتها , و كـانت المشاهد الباعثة على الخريف تتأرجح أمام نافذتي , فكم هو مدهش الخريف بشمسه التي أسماها العرب " الشمس المطرودة " و برياحه التي تداعب الغصائن حيناً, و تشتد عليها حيناً آخر, و كأنما بعض لحظات الغزل تنبىء عن شهوة للإبتلاع , فكلما حاولنا الهروب الى الشمس , إما تحاصرنا النسائم , و إما تخفي الغيوم أثرها , فنضحي ظلالاً لاترسمها خيوط النور , و كم هو الحصاد كبير ,و كم كـانت وارفة ظلال التطلعات , و كم ضاعت أماني و كم طـال خريف .. أعان الله الدارسين لماضينا , و المفكرين بحالنا , و المشتغلين بأوضاعنا , على خريفين كلاهما مثقل بأحلام تطردها الشمس , و رياح تحث الأوراق الخضراء على العبور الى المدى ,كما المدى الذي يحكمنا بلا حدود.
و في ظلال الفكر , تتفيأ ما تود أن يكون عليه الحـال إضافة للحـال الحاضر , فتستغرق في التفكير جلياً ثم تسأل : أين الخلل ؟ و كأن الشاعر حينما صدح عادّاً مثالب العرب بقوله :
مصيبة العرب منذ كـانوا الى قيـام السـاعة ،،، بحب الأمر و النهي و السمع و الطــاعة
فكـإنما اختزل , ليجبّ الماضي الحاضر , و يغلق كتاب التراث على عنوان بيته الشعري الذي يختصره بمحور " سيكيولوجيا السلطة " , فهي المحور الذي يتصارع الجميع عليه والسلطة هي أساس حركة التاريخ في عالمنا العربي الصغير الكبير ،المكتظ بنظرياته , و المليئة أوراقه بشروحات على الأغلب ...!
ابن خلدون أغلق كتاب حضارتنا في قلعة ابن سلامه بمقدته التي ابتدأ منذها عصور التأخر العربي , و كأن حسن الخاتمة هو غايتنا , و بعد ثمانية قرون من الحركة و الحيوية و الحضور ،لم يتسن "لأبي علم الاجتماع "إكتشاف أن الخريف يكون أحياناً أطول فصول السنة و أشدها حركة وسكوناً.
و كأننا سئمنا الإختلاف رغم ابداعنا في علم ( الاجتماع ) ، العمران البشري و ضاقت بما رحبت , علينا نحن العرب , و تيهاً عدنا لبداوة أخرى وهي المرحلة الأولى من مراحل النزعة للمدنية , فنحن العرب نتبدى و نتمدن , على هوى الزمـان والأحوال, وعلى هدي التاريخ نذكر تمدننا في انطلاقتنا نحو الأمصار , لنبني مدننا , ولنعمر المدن المفتوحة ,و كم هو مضني تتبع شقاء الأمويين و تعبهم بتعريب الدولة , فكانت ردة الفعل أن سحب البساط و ترامت العروبية على امتداد التاريخ لتتوج بقرار الخليفة المعتصم بتتريك أجهزة الدولة في الادارة و الجيش دافعاً بالعرب الى بداوة أخرى طال أمدها .
حتى نهض الشريف حسين بن علي من مكة معلناً تتويج جهود العرب و صحوة أخرى , فبعد غياب ألف سنة عربية عن التاريخ , غاب فيها العرب و حكمتّهم أغرب الدول على مر التاريخ , فما بين دول عمادها الطائفة , و ما بين دولة المماليك , الذين حكموا باسم ضريبة الدم ( أي لقاء الحماية ) و جور جمعية الاتحاد و الترقي التي أضحت تعبث بأسمى ما يملك العرب لغتهم و هويتهم .
جاءت الثورة العربية الكبرى التي أسماها شيخ المؤرخين الأردنيين الدكتور عبد الكريم غرايبه , بالنهضة العربية الكبرى, و التي حملت مشروعاً نهضوياً كتب له الوأد بفعل الغدر الأوروبي و اتفاقيات لم تنصف نزق العروبة و المشروع العربي الأول في التاريخ الحديث ,فالشريف حسين قدم ورقه نهضوية عروبية ,اسلامية معتدلة , و جامعة و قابله للتحقيق عمادها الانسـان و بناؤه , و بقيت لغاية اليوم المحاولة الوحيدة التي حملت رؤية قابلة للتحقيق و نشر العدالة .
في أيلول , يصبح التأمل في الماضي و الحاضر عبئاً ثقيلاً ,و تصبح محاولة تأمله تبعث فيك رعشة من نسائم أيلول كأن قول درويش : " لا تكتب التاريخ شعراً فالسلاح هو المؤرخ لا يصاب برعشه الحمى اذا سمى ضحاياه و لا يصغي الى سردية الجيتار .. ان الذكي العبقري هو القوي و ليس للتاريخ عاطفة " ، كأنها محاولة لاعادة البناء و النقد , كما أرادها الجابري .
ختاماً , كم كان الحسين بن طلال رحمه الله كبيراً في رؤيته للتاريخ , حينما قال في افتتاح أعمال مؤتمر تاريخ بلاد الشام عام 1974م , بفكر الملك العربي الوارث لنهضة امتدت لتبعث في العرب وعيهم لذاتهم بدعوة المؤرخين – انذاك – أن يبعثوا فينا الماضي المتزن فقد دعانا أن لا نكون عبئاً على تاريخنا , و أن لا يكون تاريخنا عبئاً علينا , فهي دعوه للتوازن ان اختلت نفقد حضورنا , فما بين ماضي و حاضر تكمن مفارقه الحضور الحضاري .