شخصيا، لا أعرف حتى الآن الدوافع التي تراءت للحكومة لكي تقدم على قرار رفع أسعار المحروقات يوم الجمعة الماضي، والذي جمد يوم الاثنين بإيعاز ملكي.
حرصت خلال الأيام المنصرمة على الاستماع، وباهتمام، لكل ما كان يقوله الوزراء والمسؤولون في هذا الجانب. وما راعني أن ما سمعته كان عبارة عن أسطوانة قديمة، سمعتها عشرات المرات، منذ ما يقرب من 15 عاما وحتى الآن؛ فكل التبريرات قديمة واهية، لا تقنع المواطن الذي يريد أن يعرف أين تذهب الأموال، ولماذا تراكمت عليه الديون، ولماذا وصلت موازنتنا إلى ما وصلت إليه من خطر وخطوط حمر، ولماذا عدنا إلى أحضان البنك وصندوق النقد الدوليين ومن دفعنا إليهما!
كما أننا لم نر مسؤولا يخرج علينا ليتحدث عن الموضوع بشفافية، ويشعرنا أن حكومتنا شمولية الرؤية، ولديها القدرة على المزاوجة بين الشأن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
وبالتزامن مع قرار رفع أسعار المحروقات ليل الجمعة، لم نسمع أن حكومتنا أوقفت التعيينات العليا، أو خفضت رواتب كبار مديري المؤسسات العامة الكبرى الذين يتقاضون آلاف الدنانير، وكأننا دولة ذات فائض مالي كبير، وبالتالي لا ضير من صرف رواتب خيالية لمديرين أثبتت التجارب أنهم لا يملكون فانوسا سحريا يحولون من خلاله التراب إلى ذهب، ولم نكتشف لاحقا عندهم مؤهلات غير موجودة في غيرهم من أبناء الحراثين، إنما مؤهلهم الوحيد قربهم من هذا المسؤول أو ذاك المتنفذ.
لم تخبرنا الحكومة قبل قرار رفع الأسعار (الذي جمد لاحقا بتوجيه ملكي) أنها أوقفت نزيف هدر المال العام جراء تعيينات متواصلة في درجات عليا تنفذ بشكل دوري، حتى باتت مؤسسات حكومية تفيض بمن فيها من مستخدمين جدد، أصبحوا لا يجدون مكانا يجلسون فيه، أو كرسيا يقضون عليه يومهم حتى نهاية دوامهم، وكل هذا من جيب المواطن "الطفران" الذي عليه أن يتحمل ويتحمل ويتحمل! والمسؤول يُعين من يريد، ويستقل سيارات فارهة بمحركات ضخمة، ويذهب ابنه في سيارة حكومية إلى مدرسته أو جامعته، أو حتى إلى النادي الرياضي، ويخصص موظف حكومي لتلبية حاجات حرم المسؤول.
نعم، أغمضت الحكومة قبل قرار رفع الأسعار عينيها عما يحصل في الشارع العام، وتغاضت عن تصرفاتها غير الشعبية، ولم تنظر إلى كل الصعوبات التي يمر بها الوطن والمواطن، وتعاملت مع الأمر وكأن الدنيا "قمرة وربيع"، والمواطن في بحبوحة عيش يستطيع خلالها شد الحزام قليلا، ولا يضيره لو صبر هُنيهة، ريثما تمر الأزمة الاقتصادية.
المواطن لديه الاستعداد للصبر لعيون الوطن، ولديه قدرة على شد الحزام حتى يصرخ وسطه من قوة الشد، ولكنه يرفض أن يصبر وفي الأثناء يُعين فلان، ويترغد ابن علان بالمال العام بدون وجه حق.
أيتها الحكومة! رفقا بالشعب، ولا تمتحني صبره في كل مناسبة؛ فالصبر ينفد، ووقتها يتحول المواطن الذي خبرتِه وادعا على الدوام إلى شخص رافض مقهور يشعر بالظلم والغبن، وخاصة عندما يرى أنه وحده المطلوب منه الصبر والتضحية، وامتحان أوجاع الفقر والجوع والفاقة، وغيره يتاجر بأوجاعه ويقفز على آلامه، ولا يكترث لجوعه وفقره.
إن الرهان الحكومي على أن الشعب سيمرر كل ما تقوم به الحكومة، وأن القصة لن تزيد على غضب مؤقت لساعات قليلة ومن ثم تمر الأمور على خير وبركة، هذا الرهان لا يفيد، وما قصة الراعي والخروف للكاتب التركي المبدع عزيز نيسين بعيدة عنا، فالخروف انقلب ذئبا من كثرة ما لحقه من ضيم وقسوة وضرب وتجويع من قبل الراعي، فهل نتعظ؟
الغد