بدران يكتب: كيف تسرق الأموال؟
03-09-2012 12:50 PM
عمون - كتب د.ابراهيم بدران - أصبح من المتعارف عليه عالمياً، أن واحداً من الإجراءات التي يمكن اتخاذها ضد دولة ما، أو نظام حكم أو حزب معين ، يتمثل في الحجز على أموال المسؤولين في ذلك النظام، و المودعة في المصارف العالمية وخاصة سويسرا وأمريكا وفرنسا وبريطانيا والعديد من الجزر في المحيط الهادي ...الخ.
ومنذ بداية الربيع العربي مع مطلع عام 2011 ، توالت الأسماء والأرقام بلا انقطاع في هذا البلد أو ذاك، لتزيح الستار عن صورة كانت غير معروفة للوطن والمواطن، صورة تكشف حالة التكسب والتنفع والسمسرة غير القانونية المتفشية على أعلى المستويات.
والملفت للنظر انه كلما ازدادت الإجراءات الدولية شدة، كلما ظهرت أسماء جديدة تضم مدنيين وعسكريين على السواء، وبشكل رئيس مسؤولين في مواقع متقدمة جداً .ابتداء من رؤساء الدول، وانتهاء بمديري مكاتبهم. وما بين هؤلاء وهؤلاء من وسطاء، ورجال أعمال ووكلاء وعملاء، وأقرباء وانسباء وغيرهم .والأموال التي يجري الحجز عليها ،عادة ما تكون بعشرات أو مئات الملايين وأحياناً كما كان الحال مع القذافي ومبارك قد تصل الى المليارات . أما أبن علي والأسد وأركان حكمهما فالحديث فقط عن عشرات الملايين.
ومع الدخول غير الرشيد، وغير العلمي، وغير الحكيم من منظور وطني لحقبة السوق المفتوح والخصخصة وتجاهل العنصر الاجتماعي في الاقتصاد، وفهم السوق على أنه تخلي الدولة عن مسؤولياتها، والتعامل مع الخصخصة على انها مجرد بيع موجودات وثروات الوطن للمشتري الأجنبي، وبقرار أو توصية أو تشجيع سياسي من هذا المسؤول أو ذاك، وربط كل ذلك بالعبارة السحرية الغامضة “ المصلحة الوطنية”، ومع غياب أدوات الرقابة الشعبية، وسيطرة الأجهزة التنفيذية على الأجهزة التشريعية والقضائية، مع كل ذلك، تعمق زواج المال بالسلطة، وأصبح المال الكبير على شكل عمولات وحصص تقدر بالملايين، يتسرب من مفاصل الدولة ويجري في ايدي المتكسبين والمستفيدين من المسؤولين وسواهم.
والسؤال كيف كانت تسرق هذه الأموال؟ وكيف كان يجري الحصول عليها؟ وكيف يتم تحويلها؟ وهل مازالت الحال كما هي دون تغيير؟
هناك منابع رئيسة لهذه الأموال ينبغي النظر فيها. الأول: العقود الضخمة وغير معروفة التفاصيل لصفقات الأسلحة والمعدات والعسكرية والتي تصل قيمتها عادة الى عشرات ومئات الملايين. والمنطقة العربية هي من أكبر المناطق المستوردة للأسلحة والمعدات العسكرية في العالم وبمعدل يتجاوز (4.5) مليار دولار سنوياً. وهناك في كل بلد سلسلة طويلة من الوسطاء والمستوردين تتيح الفرصة للحصول على العمولات التي يتم تحويلها إلى الخارج . الثاني : العقود الضخمة أيضاً للمواد الغذائية ومنها الحبوب. حيث تستورد المنطقة العربية ما يزيد عن (32) مليار دولار سنويا من الغذاء، ومن القمح وحده ما يقرب من (40) مليون طن سنوياً في عقود كبيرة تتيح الفرصة للنفوذ السياسي وللوسطاء الإفادة من هذه العقود . الثالث : برامج الخصخصة. و التي يتم فيها بيع الموجودات الوطنية من مرافق أو ثروات طبيعية” لمستثمرين” أجانب في صفقات مفاجئة، وغير مقنعة، ومن خلال حلقات غامضة. والأهم من كل ذلك بعيدة عن الشفافية تماماً . وفي أي بلد من البلدان فإن المرافق التي تمت خصخصتها تتجاوز مئات الملايين لتصل الى المليارات . وهنا تكمن الفرص للتجاوز على المال العام، خاصة وانه ليس هناك من ضوابط دقيقة معلنة لقيمة وأسعار المرافق المراد خصخصتها، ولا للشروط التفصيلية المرافقة . ولأن” الشركاء الاستراتيجيين” في الغالب هم من الأجانب، فإن العمولات تذهب مباشرة الى حسابات المستفيدين في البنوك الدولية. ولا يعلم أحد بالتحويلات والحسابات والترتيبات التي ترافق كل ذلك . الرابع : الأراضي. حيث يتم شراء أو استملاك أو تفويض أو الاستيلاء على أراض ذات قيمة سوقية متواضعة أو ثمينة جداً، وكثيراً ما تكون أراضي زراعية أو غابات أو ذات مواقع هامة .ومن ثم تباع هذه الى مستثمرين أجانب أو محليين بأسعار باهظة أو بخسة، و لكنها ليست عادلة في أي حال من الأحوال. ويستفيد المسؤولون و المتنفذون والوسطاء من فروق الأسعار والتي تبدو ظاهرياً انها طبيعية. و أحيانا يتم العكس اذ تمنح أراض عالية القيمة بأثمان رمزية بخسة. وهذه تبلغ مئات الملايين من الدولارات ويتم تحويل العمولات الى البنوك الأجنبية. الخامس: مشاريع الإسكان والأعمال. حيث تقام مشاريع اسكانية على أراض رخيصة الثمن، وتباع بأعلى الأسعار. كما كان يحدث في مصر أيام مبارك. ويسهل المسؤولون و المتنفذون الحصول على التراخيص والخدمات والموافقات مقابل عمولات كبيرة. السادس : التسهيلات البنكية حيث تتم إحالة عطاءات أو مشاريع على شركات أو مستثمرين و أحيانا أشخاص لا تتوفر لديهم الأموال، أو لا تتوفر لديهم المعدات أو الخبرة. وبمجرد أن تحال العطاءات أو يمنحوا التراخيص أو الامتياز، يصبح بإمكانهم الحصول على التمويل من البنوك المحلية، أو بيع أسهم شركاتهم بأسعار مضاعفة، وخلال ذلك تصل العمولات الى المتنفذين. كما فعل حسين سالم بامتياز الغاز المصري.
وحقيقة الأمر ان مجمل هذه الأموال، وهي جزء أساس من حقوق الشعب والوطن، كافية لتغيير حالة المجتمع الى الأفضل؛ لو أنها استثمرت لصالح المجتمع ولم تذهب الى الجيوب الخاصة، والبنوك الأجنبية.
هل هناك حلول لهذه المشكلة المعقدة التي يدفع ثمنها المواطن من قوته اليومي دون أن يدري ؟، أوتسهم في صنعها الشركات والبنوك الأجنبية أو المحلية، ودور الوساطة والأعمال، والعلاقات العامة ؟ الإجابة بسيطة وواضحة . نعم، وفي إطار عدد من الضوابط، أطلق بعضا منها الاتحاد الأوروبي قبل بضع سنوات، لعل من أهمها أولاً: توقف الأجهزة التنفيذية عن التدخل في أعمال أو تكوينات السلطتين القضائية والتشريعية. ثانيا :إنهاء حقبة مجالس الأمة الفردية التشكيل و الانتقال الفوري إلى المجالس المنتخبة بنزاهة، والممثلة للقوى والأحزاب السياسية .ثالثا: إعمال مبدأ الشفافية والمساءلة وخاصة في المستويات العليا من المسئولية.رابعا: إشهار الذمم المالية محليا و دوليا لكبار المسؤولين ولبضع سنوات قبل و بعد مغادرة الموقع الرسمي .خامسا: حظر التوظيف لكبار المسؤولين بعد ترك الخدمة في شركات ومؤسسات كانت تقدم خدمات مدفوعة الثمن للدولة،و لمدة لا تقل عن (5) سنوات و إعلام الدولة عند الالتحاق بوظائف في تلك المؤسسات والإفصاح عن الرواتب أو المكافآت.سادسا: إجازة المشاريع و العطاءات الكبيرة و المتعددة الأطراف أو ذات العلاقة بالثروات الوطنية من مجلس الأمة قبل نفاذ اتفاقياتها رسميا. سابعا: عدم التهاون في قضايا الفساد .ثامنا:التحسين الأفقي والعمودي للحاكمية للوصول إلى الحاكمية الجيدة. تاسعا : إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية والأخلاقية والوطنية في التربية والتعليم والثقافة والإعلام وفي إدارة الدولة.عاشرا :سيادة القانون على الجميع بالعدل والمواطنة والمساواة، وفاعلية الإدارة الحكومية.
وبعد، فإن المؤشر العالمي للسعادة يضع الدنمارك و فنلندا و النرويج وهولندا وكندا و سويسرا والسويد ونيوزيلندا و استراليا و ايرلندا في أعلى السلم( 94 ألى87). وهذه الدول نفسها تتمتع بأعلى الدرجات على كل من سلم الحاكمية الجيدة(95إلى82)، و سلم مقاومة الفساد(95 إلى87). فغياب الفساد إلى درجة متناهية، و رسوخ الحاكمية الجيدة يشكلان مصدر سعادة للمجتمعات. فهل يمكن للمجتمعات العربية ،ونحن كذلك، أن تتحرك من الثلث الأدنى على سلم مقاومة الفساد و سلم الحاكمية إلى الثلث الأعلى عليهما ،فيختفي ذلك “العبوس العربي” و الوطني الدائم و”النكد التاريخي” الذي يخفي وراءه سنوات طويلة من القهر والظلم و الاستغفال؟ فتتوقف الأسماك عن ابتلاع ثروات المجتمع، و إذاك تغمرنا السعادة .. ذلك هو الأمل.الدستور