شيخوخة الاقتصاد العربي تفتك بالشباب!
جواد البشيتي
01-09-2012 05:50 AM
ذوو الخبرة والكفاءة والاختصاص من أبنائنا الذين أنفقوا كثيرا من المال والجهد والوقت في سبيل أن يصعدوا سلَّم التعليم الجامعي حتى درجته العليا، وأن يجدوا، من ثمَّ، أمكنة لهم في سوق العمل، هم الآن في عداد الجيش الجرار للعاطلين عن العمل، فإما أن يهجروا الوطن إلى الوطن الثاني، إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإما أن يذهبوا إلى الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة.
الغلاء هو الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء. وفي هذا المعنى يقال: غلا السعر. وغلاء الأسعار، أي أسعار المأكل والملبس والمسكن والعلاج والتعليم والكهرباء والبنزين والغاز،.. إنما يُنْتِج رخصا في أسعار أشياء ينبغي لكل مجتمع إنساني أن يبقيها غالية، فالغلاء ينتج الفقر والجوع.. أي يُنْتِج عالما لا يحل مشاكله إلا بالحراب، ويضمحل فيه الإنسان في داخل كل إنسان، فينهار بنيان الفرد والجماعة من القيم الأخلاقية والإنسانية والحضارية، ولا يبقى من مبدأ يستمسك به إلا "مبدأ الذئاب"، الذي يُلزمك أن تكون ذئبا حتى لا تأكلك الذئاب!
الراتب أو الأجر، لدى غير العاطلين عن العمل، هو كل ما يملكه المواطن العادي من مال ينفقه في سبيل العيش، الذي جعله استفحال الغلاء صراعا يوميا في سبيل البقاء على قيد الحياة!
إفقار، ومزيد من الإفقار، للحياة الاقتصادية للغالبية العظمى من المواطنين العرب؛ وهذا الإفقار لن يظل اقتصاديا خالصا، فالإفقار الاقتصادي هو قوة إفقار لأمن المجتمع واستقراره، ولحضارته وأخلاقه وإنسانيته، فالمسار الهابط الذي نسير فيه حثيثا إنما يجعلنا قاب قوسين أو أدنى من الدرك الأسفل، وهو تصفير القدرة الشرائية الفعلية للغالبية العظمى من المواطنين العرب، فالراتب، أو الأجر، يكاد أن يتحول إلى وسيلة لتلبية الحاجة إلى المأكل فحسب؛ فإنَّ حصة الطعام في الراتب، أو الأجر، تتسع، وتزداد اتساعا، حتى أن الحصص الأخرى ما عاد لمعظمها من مكان فيه؛ والطعام ذاته لا تعلو حصته تلك إلا لتهبط نوعيته.
إننا في عصر العولمة، الذي من أهم سماته الجوهرية تكاثر وتنوع حاجات الإنسان، الذي يعد ميتا، بالمعنى الحضاري والثقافي والإنساني والاقتصادي والاجتماعي، إذا ما عاش بالخبز وحده، أو في سبيل الخبز وحده. وفي هذا العصر، وبه، اشتدت مأساتنا وعنفت، فالعولمة تتحدانا أن نلبي حاجاتنا الإنسانية، بكثرتها وتنوعها، كما يلبيها غيرنا من الشعوب والأمم الغربية؛ لكننا ما أن نحاول مواجهة هذا التحدي حتى يظهر فينا من العجز ما لا يليق بإنسان القرن الحادي والعشرين، فقدراتنا الشرائية الفعلية اسْتُنْفِدت، ودُمِّرت، فأصبح الراتب، أو الأجر، وسيلة لحياة فيها من معنى الموت أكثر كثيرا مما فيها من معنى الحياة.
إنَّ الأرقام لأصدق إنباء من كل الخطب والشعارات.. ولقد جاء فيها أن 140 مليون عربي يعيشون في فقر مدقع، أي ما نسبته 40 في المئة من أمة العرب.
أما الشباب، الذين لهم الغد، على ما يزعم المطربون في بعض من أناشيدهم، فتنهشهم البطالة، وإنَّ 50 في المئة من جيش العاطلين عن العمل في البلاد العربية ينتمون إلى الشباب، فمعدل البطالة بينهم هو الأعلى عالميا.
وينبغي لدولنا أن تخلق 51 مليون فرصة عمل جديدة في السنوات العشر المقبلة إذا ما أرادت إكساب سوق العمل العربية شيئا من المرونة، فإن فشلت (وهذا هو الاحتمال الواقعي) فسوف ينمو هذا الشر الاجتماعي (البطالة) أرقاما ونسبا.. وعواقب.
وينبغي لها أيضا أن تؤسس لاقتصاد يحمي الفقراء الأشد فقرا (أي نصف الأمة العربية) من ارتفاع الأسعار، وأن تعزز الأمن الغذائي للعرب، وأن تحقق لهم اكتفاء ذاتيا من الغذاء، وأن تسد الفجوة الغذائية في العالم العربي، وأن تتوصل جميعا إلى عقد اجتماعي عربي، تتعهد بموجبه الدول الغنية بدعم عملية القضاء على الفقر في العالم العربي.
من يسمع ذوي الأرقام الرسمية يتحدثون عن البطالة العربية يظن (أي يتوهم) أن البطالة العربية لا تختلف نوعيا عن البطالة في دول الغرب، أو دول الشمال، فالعاطل عن العمل في هذا البلد العربي أو ذاك لا يختلف كثيرا، أو نوعيا، عن مثيله في السويد مثلا!
إنَّ العاطل عن العمل هناك، أو في السويد مثلا، يعيش اقتصاديا أفضل بكثير من العامل النظامي عندنا، ويلبي حاجاته المعيشية والاقتصادية الأساسية بما يظهر العامل النظامي عندنا على أنه في وضع العاطل عن العمل (من الوجهة الواقعية، وبحسب هذا المقياس الاقتصادي والاجتماعي.. والإنساني الجيد).
العاطل عن العمل هناك، ومهما ساء عيشه بحسب مقياسه هو، يظل محتفظا بكثير من قوام وجوده الإنساني والحضاري; أما عندنا فإن آدميته تشرع تضمحل وتتلاشى، وتحدق بها المخاطر من كل حدب وصوب، فشتان ما بين عاطل عن العمل يظل محتفظا بآدميته، محافظا عليها، وعاطل عن العمل يعاين، ويعاني، على مدار الساعة، اضمحلالها وتلاشيها.
ونقول، أيضا، إن العاطل عن العمل في مجتمعنا هو الانهيار المتسارع في الجدار الأمني للقيم الأخلاقية، فالعمل مع رفع مستوى عيش الإنسان هو الدرع الحامية لزهوره الأخلاقية.
وفي اقتصاد عربي يشذ عن ناموس الجاذبية الكونية لا عجب إن رأينا فيه القوة الطاردة المركزية تفوق أضعافا مضاعفة القوة الجاذبة نحو المركز، فالاقتصاد والتعليم عندنا يتضافران على طرد مزيد من رؤوس أموالنا، وأدمغتنا، وأيدينا العاملة الماهرة إلى الخارج، فها نحن، وبعد زمن طويل قضيناه في تصدير المواد الأولية إلى الرأسمالية الصناعية الغربية، نتوسع في التصدير، فنصدِّر إليها رؤوس الأموال، والأدمغة، والأيدي العاملة الماهرة، ولا نستورد منها إلا بما يؤدي إلى مزيد من هذا المسخ لحياتنا الاقتصادية.
العرب اليوم