هي طفلة لم تتجاوز السنوات الأربع.. هرعت لوالدها وقالت له "بابا هديتي للعيد بدي تكون اي باد 3 مشان انزل عليه كل الألعاب والأغاني والصور، وبدي يكون الجهاز أجدد من اللي عند أختي"..

انصدمتُ من طلب هذه الطفلة الصغيرة التي تتقن العمل على البرامج والألعاب التي على الجهاز أكثر من الكبار أنفسهم، لا بل تتفنن بتعليمها لمن هم أصغر منها ومن هم أكبر أحيانا..

هي واحدة من أطفال عديدين في مجتمعنا، حيث تأخذ الوسائل التكنولوجية من حياتهم حيزا واسعا، ويقضون ساعات طويلة من أوقاتهم أمامها من دون أن يرف لهم جفن.

لم تعد الألعاب الصغيرة من سيارات ودمى جميلة والرسم وتشكيل قطع الليجو تثير اهتمامهم، بقدر ما يثيره (الآي باد) وغيره من الأجهزة الذكية التي تتمتع بتقنيات عالية.

كنت وما أزال أرى مجموعة من الأطفال يلعبون بجانب أماكن سكنهم، ولكن ألعابهم اختلفت نوعا ما، عن "الطماي والحجلة وكرة القدم" وألعاب اخرى كنا نخترعها ونحن في عمرهم.

فكل واحد يأخذ مكانه لا يتحرك منه، ويحمل جهازه الخاص والذي "يغيظ" به صديقه؛ لأنه يحتوي على برامج اكثر تقنية وألعاب مشوقة وممتعة أكثر، مع فقدان واضح للتواصل الحسي فيما بينهم. حتى الضحكات البريئة والجميلة التي كانت تزين وجوههم غابت، وحل مكانها عيون فيها انعزال تكنولوجي مرعب!

أجهزتهم "الصماء" ترافقهم أينما كانوا، لا غنى عنها.. تدخلهم عالما خاصا معزولا عن كل من حولهم، ولا يرفعون أعينهم عنها، فقد تنقلهم من عالمهم الحقيقي لعالم غامض يغير من سلوكياتهم وشخصيتهم وتأخذهم لمكان مجهول لا يناسب براءتهم واعمارهم.

المشكلة أن كثيرا من الآباء يتركون أبناءهم يعبثون بهذه الأجهزة "الذكية" رغبة في عدم سماعهم لأي ضجيج، فالأم تستطيع اكمال نشاطاتها المنزلية من دون أن تسمع صوت طفلها وطلباته غير المنتهية لساعات طويلة يجلس خلالها برفقة "آي باده". أما الأب فهو معجب بهدوء ابنه و"حكمته" في العالم التكنولوجي، لدرجة أنه تمنى لو أنه اشتراه له قبل ذلك بكثير!!

والطفل المشاغب لم يعد كما كان "ينق" كثيرا بسبب ملله أو رغبته في اللعب بمشاركة الأهل، أو رؤية أطفال من عمره، فصديقه الوفي بين يديه، وهو ما يمكنه من الاستغناء عن أي رفيق آخر، وربما بات يزعجه وجود أي أحد بجانبه يجبره على ترك لعبة أو برنامج مفضل من أجل واجب التواصل معه..

ندرك جميعا أهمية انفتاح الطفل على العالم التكنولوجي والتكيف معه والاستفادة من جوانبه التعليمية العديدة، ولكن أضراره أكثر من فوائده إن تُرك الطفل بدون أي رقابة أو توجيه أو توعية من مخاطره، وكلما تأخرنا في ذلك الجانب كانت المعالجة أكثر صعوبة وتعقيدا، والسيطرة على الطفل أمر شبه مستحيل..

لينفتح أبناؤنا على العالم.. للأسف هكذا يردد الآباء، من دون أن يدركوا عواقب هذا الكلام، وانعكاساته السلبية على شخصية الطفل، وخلق روح الانعزالية في داخله.

فما نفع أن يكون الابن ذكيا، ولا أصدقاء له غير هذا الجهار الأبكم الأصم الذي يدعي (آي باد)!!
f.alhassan@alghad.jo

الغد