عمل المكتشف بيركهارت جاسوسا لدى المخابرات البريطانية في بدايات القرن التاسع عشر ، وقام برحلات في بلاد الشام ومصر وجزيرة العرب وسجل انطباعاته ، وينسب اليه اكتشاف مدينة البتراء ، وهذه مبالغة ، لأن البتراء كانت مكتشفة لدى البدو ، وهم من أوصله اليها ، لكن (فضله) يقتصر على تعريف العالم إلى كنوزنا وفتح عين الاستعمار على المنطقة أكثر وأكثر .
ما علينا ، يحكي بيركهارت خلال مرافقته للقوافل التجارية العربية ، بأن العرب يتحدثون عن (أم مغيلان)، وأنا أعتقد انهم كانوا يتحدثون عن (أم الغيلان) لكن لسانه الأعجمي لم يدركها تماما، وهي غولة – حسب العرب- تأكل المسافرين الذين يتخلفون أثناء المسير عن القافلة .
ومن الواضح طبعا أن لا غولة ولا ما يحزنون ، لكن هذا الحديث الأسطوري عن أم الغيلان ، يلهب المشاة حماسة وهم في الصحراء ليتقدموا مع القافلة والا افترستهم أم الغيلان، ويجعلهم هذا المخيال المرعب يتغلبون على التعب والجوع، وهم يتخيلون عظامهم تطقطق بين أسنان أم الغيلان شخصيا .
في مأدبا يتحدثون عن فارس كان عائدا في الليل ، فظهر امامه فجأة مارد أسود عملاق ،فاستمر الفارس في الركض، لكن العملاق الأسود كان يستمر في الظهور أمامه ، وكان الفارس يحاول التملص منه الا أن المارد كان يزاحمه على الأمام ، لكن الفارس استمر في محاولة الهروب حتى هدّه التعب فيقف مستسلما، ليكتشف أن الفارس العملاق هذا لم يكن سوى إحدى الشراشيب السوداء المدلاة من (عقاله) وقد تدلت بين عينيه خلال المشي.....
انه الخوف من الليل..انه عصر ما قبل الكهرباء ..عصر الأساطير المتخيلة .
نعود الى المرحومة أم الغيلان..اعتقد أن جانبا اخر من الأسطورة كان الأهم ، وهو أننا نتقاعس عن مساعدة الضعفاء منا، ونبرئ أنفسنا ونمنح حالنا صكوك عفران من دماء اخوتنا ، تحت شعار أن ام الغيلان تفترسهم ، وننسى اننا نترك اخوتنا فرائس في الطريق ، لأن نزعتنا الفردية تتغلب على نزعتنا الجماعية، ولا نرغب بالاشتباك مع الواقع ولا نحمل أنفسنا المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية.
بعد مئتي عام على رحلات بيركهارت ما زلنا فرديين تماما كأجدادنا ، ولم تعلمنا عصور الظلام ولا الاستعمار القديم ولا الحديث أن نتكاتف معا من اجل مواجهة الغيلان في كان مكان .
عشان هيك......تتبدد انجازاتنا مثل حراثة البعارين، وما زالت شراشيب العقال تشكل رعبا حقيقيا لنا، لأننا لم نستفد من تجربة الفارس، وما زلنا نكرر الأخطاء ونراكمها ..مثل (أبو جعرّان).!!
ghishan@gmail.com
الدستور