على الدولة أن تحمي الناس من بعضهم بعضا وهذا جوهر مهمتها .
في مجالس العيد ليس للناس سوى الحديث في قضيتين لا ثالث لهما، الأولى ،الانتخابات النيابية والتسجيل في سجلاتها وغلبت على رأي الاردنيين فكرة ان الاجواء ليست اجواء انتخابات والثانية ، قضية "الفلتان الامني" في كل المناطق والحارات والشوارع ومن الاطراف كافة ، وان هناك غيابا للدولة واجهزتها وان المواطن اخذ يتحدى القوانين والانظمة ويتحدى الدولة نفسها .
وهنا سنتحدث عن سياسة الأمن الناعم التي اتخذتها الاجهزة الامنية وتباهت فيها باعتبارها جزءاً من عملية التعامل الحضاري مع الحراكات الشعبية في الشوارع، لكن هناك فرق بين حق التعبير عن الرأي الذي كفله الدستور وطرح المطالب والمظالم الشعبية في إطار الحوار الوطني والتعدي على حقوق الآخرين .
فسياسة الأمن الناعم لا خلاف عليها في التعامل مع من يحترم النظام والقانون، وهذا ينطبق على كل من يعبر عن رأيه بصورة حضارية لا تضر الآخرين أو حقوقهم ، والمقصود هنا الحراكات الشعبية التي تطالب بمحاكمة الفاسدين أو حل مجلس النواب أو توسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار الوطني أو حتى مراجعة سياسات الخصخصة، فكل من يطالب بذلك يمارس حقه بموجب الدستور، ومن واجب الدولة ان تفسح المجال أمام هذه الحراكات الشعبية.
لكن ليس من حق أحد أن يتعدى على حقوق الآخرين أو يضر مصالهم أو يُخرّب مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص أو الممتلكات الخاصة، فمثل هؤلاء يستحقون أن يتم التعامل معهم بالأمن الناعم بل هم لا يفهمون إلا لغة "القنوة" في ضبطهم وتحويلهم إلى المحاكم.
أخبرني صديق أن أجهزة الدولة بصدد اتخاذ اجراءات صارمة بحق المعتدين في الشوارع ومثيري الشغب والمشاجرات ، وهو قرار حكيم لكنه تأخر كثيرا، فقد شهدنا خلال الاشهر الماضية تجاوزات أمنية خطيرة وتكسيرا واعتداءات في كل المناطق، فيما يشبه "الفلتان الامني" من دون ردة فعل من أجهزة الدولة ، لا بل تعدى الأمر إلى أن الدولة وأجهزتها أصبحتا "مفعولا به".
إن مشروع فرض الأمن هو مشروع حياة أو موت لا يمكن تأجيله لأنه غول يأكل الأخضر واليابس، ويجر الناس إلى "مغارته المسحورة" من دون أن ينتبه المتحمسون له إلى مواطىء أقدامهم التي قد تنزلق في لحظة إلى هوة عميقة لا يمكن الخروج منها.
فالديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان، شرط أساسي لقيام الدول واستمرارها لأنها تجلب الاستقرار للنظم السياسية والسعادة للناس لكن ذلك لا يجدي نفعا مع غياب الأمن الذي يتهاوى اذا لم يعرف النظام المحاسبة وشفافية التعامل في الاقتصاد والأمن والسياسة.
وعلى الدولة ان تعاقب الفرد مهما كانت وظيفته على ما اقترفه، وهذا افضل بكثير من تعريض سمعة الدولة للإساءة ووضعها في قفص الاتهام مع مخالفي القوانين، لأن في ذلك ردعا لكل من يتعدى على القانون "ويأخذه بيديه".
لكن ذلك يجب ان يترافق مع احترام المواطن القانون والنظام العام وعدم التعدي على حرية الآخرين وعدم اتخاذ الشارع مكانا للحوار والمناكفة وفرض المواقف والآراء على الآخرين والاستقواء على الدولة، وعلى الاخيرة ان تحمي الناس من بعضهم بعضا وهذا جوهر مهمتها.
هذا الوطن لنا جميعا واحترامه فريضة، والأمن اهم من الخبز وأهم من الاصلاح، وأهم من حرية الصحافة، فالديمقراطية تبقى زائفة من دون ان ترتكز إلى أمن ثابت .
nghishano@yahoo.com
العرب اليوم