إنتهاكات مغلّفة بورق السيلوفان! ** د. سليمان صويص *
16-08-2012 06:45 PM
نشر المركز الوطني لحقوق الإنسان مؤخراً تقريره السنوي الثامن عن أوضاع حقوق الإنسان في الأردن خلال العام المنصرم 2011.
إن كل من يقرأ بتمعن هذا التقرير سوف يصاب بالإحباط الشديد؛ فوراء السرد والتعداد الموضوعي للانتهاكات "المغلّفة بورق السيلوفان" تطلّ نظرة تشأؤمية تقول لنا ـ لو أرادت أن تبق البحصة وتقول الحقيقة ـ "أن أوضاع حقوق الإنسان في البلاد هي في تراجع مريع"، وقد آن الآوان لقرع جرس الإنذار بقوة لإنقاذ هذه الأوضاع. إن العبارات الواردة في التقرير والتي تشي بإدارة ظهر الأجهزة الحكومية لحقوق الإنسان كثيرة وتتكرر في مواضع كثيرة من التقرير : لنتوقف عند هذه العبارات : "لاحظ المركز بأنه لم يطرأ أي جديد"؛ و"كما ورد في التقارير السابقة"؛ و" ...يجدّد المركز التأكيد على توصياته الواردة في تقاريره السنوية الماضية"؛ و"بقيت التحديات التي ذكرها المركز في تقاريره السابقة على حالها ولم يطرأ أي جديد في عام 2011". "مشكلات السجون والازدحام فيها واستمرار عدم تصنيفها لا تزال كما هي منذ سنوات". هذا بعض ما حفل به التقرير الذي جاء في نحو مائتي صفحة على موقع المركز، دون أن ننسى تراجع أوضاع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية وتفاقم العنف؛ ولذلك ننصح بقراءة التقرير بالتفصيل لكي يكون المرء على وعي تام بحقيقة الأوضاع كما يعكسها التقرير، في حدود ما تتوفر لدى المركز من معلومات.
ماذا يعني تكرار العبارات الآنفة الذكر ـ وغيرها الكثير ـ إذا أردنا أن نترجم "لغة" التقرير إلى العربي "الفصيح" ؟ يعني أن تقارير المركز السابقة، والتي بُذلت فيها جهود كبيرة مشكورة للرصد والمتابعة، تبقى ـ للأسف الشديد ـ حبراً على ورق. يستلم المسؤولون نسخاً منها، ويطلقون الوعود أمام الكاميرات بأنهم "سيدرسونها بإهتمام شديد"، ثم تحوّل إلى إدارات حكومية مختلفة لكي يصار بعد ذلك إلى وضعها على الرفوف... و.. عاشت حقوق الإنسان!
في تقريره الصادر العام الماضي، تجرأ المركز وذكر بصريح العبارة بأن نسبة تجاوب الأجهزة الحكومية مع الشكاوى التي يحوّلها المركز إليها لا تتجاوز ال 15 % وذلك منذ تأسيس المركز عام 2003. عندها كتبتُ تعليقاً على ذلك قائلاً : "أن المنظمات الأهلية الأردنية لحقوق الإنسان كانت تقول في تقاريرها بان نسبة تجاوب الحكومات مع الشكاوى التي كانت ترفعها إليها لا تتجاوز ال 10 %. واليوم لم يستطع المركز ـ وهو مؤسسة للدولة ـ أن يغيّر جوهرياً تلك النسبة". لتبرير ذلك كانت الحكومات تزعم بأن المنظمات الأهلية الأردنية "تبالغ"، وأنها "مسيّسة" وأن لها "اجندات خاصة"، إلى غير ذلك من الذرائع والحجج. فماذا عن المركز الوطني: هل عنده ـ هو الآخر ـ "أجندة خاصة" غير تلك المتعلقة بحقوق الإنسان ؟! اختتمت قائلاً : إن النتيجة المنطقية لذلك هي المطالبة بحل المركز الوطني؛ لكن الباعث لذلك ليس تقاعس المركز عن القيام بواجباته، فهذا غير وارد إطلاقاً، بل الموقف الحكومي العملي الذي يأتي احترام حقوق الإنسان وتطبيق توصيات المركز الوطني (وهي الجهة الرسمية المختصة) في آخر اهتماماته". اللهم إلا إذا كانت موجبات وجود المركز هي الحاجة لإيهام العالم الخارجي بأن حكوماتنا "حريصة" على حقوق الإنسان، بالرغم من عدم إكتراثها بتقاريره وتوصياته !
قد يقول قائل بأن ما نورده أعلاه فيه مبالغة وبأننا لا نرى سوى "نصف الكوب الفارغ". حسنٌ. لناخذ التعديلات التي أدخلت على الدستور والتي يصنفها التقرير الثامن في خانة التطورات الايجابية المفضية إلى المزيد من احترام حقوق الإنسان. بالتأكيد تذهب بعض هذه التعديلات ـ التي هي مطالب شعبية ـ بهذا الاتجاه، لكن التقرير يغفل حقيقة أن جوهر التعديلات التي كانت ولا تزال تطالب بها قوى الحراك الشعبي والأحزاب السياسية لم يؤخذ بها، وبالتالي فإن الاصلاح الدستوري والسياسي الحقيقي والمطلوب لا يزال على جدول الأعمال. أما الاستجابة لمطالب شعبية كإنشاء المحكمة الدستورية فإنها أفرغت من مضمونها، ولذلك جاءت شكلية. فكيف يمكن لهذه المحكمة أن تكون مستقلة بينما قرار تشكيلها بيد السلطة التنفيذية، وليس بيد المجلس القضائي كما تقتضي الأصول؟ وكيف لها أن تكون فاعلة في حين أن مَن يحق له أن يحوّل لها القوانين المطعون فيها هما الحكومة والبرلمان، أي الشريكان في وضع القوانين وإصدارها ـ في حين حرم المواطنون والأحزاب السياسية والنقابات، وهي الجهات التي تطبّق عليها القوانين، من حق الطعن بدستورية قوانين ؟!
ماذا نقول عن قانون "منع الجرائم" الذي تطالب معظم القوى الشعبية والحقوقية والسياسية والمدنية بإلغائه منذ ربع قرن... نعم منذ ربع قرن، ومع ذلك لا تزال الحكومات متمسكة به تحت ذرائع واهية، ويكرّر تقرير المركز الثامن "تثقيفنا" بمساوئه للمرة الألف ؟! هل يمكن أن يصدّق أحد بأن وجهة النظر الشعبية لها إعتبار ولو 1 % لدى الحكومات؟ والأمر نفسه ينطبق على قانون الصوت الواحد الذي تطالب معظم القوى الشعبية والسياسية بالتخلص منه منذ 18 سنة ؛ ومع ذلك تم تجاهل جميع الاقتراحات البديلة البناءة ولا تزال الحكومات مصرّة عليه.
لا نستطيع أن نحمّل المركز الوطني بأكثر مما يحتمل دوره ؛ فهو يستحق التقدير والشكر على الرصد الذي قام به وعلى الجهود التي بذلها ويبذلها. لكن الخوف الآن هو من التوجه الحكومي الحالي ـ والذي نخشى ان يزكّيه المركز ـ لتصوير أوضاع حقوق الإنسان في البلاد وكأنها في "تقدم مستمر"، في حين أن الصورة الحقيقية وعلى أرض الواقع تشير إلى أنها في "تراجع مستمر"، وهذا ما يجب أن يثير القلق البالغ لدى قطاعات الشعب المختلفة وقواه المنظّمة.
ولكي لا نبدو عدميين في نظر البعض، نقترح على المركز أن يطلب من الحكومة اجتماعاً دورياً لمتابعة مدى جدية الحكومة في تطبيق توصيات المركز، وأن يُصدر المركز بياناً للرأي العام عقب كل اجتماع. فالحقيقة يجب أن لا تظل حبيسة الغرف المغلقة.
أخيراً، لعلّه جدير بكل مهتم بحقوق الإنسان أن يلتقط مغزى أن يشهد عاما 2010 و2011 تحركات مطلبية شعبية واسعة في قطاعات كثيرة جداً؛ ألا يعني ذلك بأن قسماً هاماً من المواطنين قد توصل منذ سنوات إلى القناعة بأن انتزاع الحقوق يتم عبر النضال الشعبي المثابر والمنظّم، وليس عبر المناشدات التي لا تجد لها صدى لدى المسؤولين؟
* رئيس الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان