في أنّ العلمانية ليست شتيمة
هشام غانم
10-11-2007 02:00 AM
لمْ يتعرّض مفهومٌ سياسيّ، في ديار العرب و المسلمين، للتقبيح و التشويه و التبديع (من بدعة) كما تعرّضت العلمانيّة. و مصدرُ التقبيح و التشويه و التبديع ناجمٌ – في أغلبه - عن سوء نيّة، و في أقلّه عن جهل و تعصّب؛ فكارهُ العلمانيّة هو واحد من اثنين: إمّا فاسد ٌمستفيدٌ من الوضع القائم، و إمّا متعصّب ختَمَ اللهُ على قلبه. و الأوّل، أي المستفيد من الوضع القائم، يكره العلمانيةَ لأنّها شرطٌ لازمٌ للديموقراطية. و لا ريب أنّ الفساد و الفاسدين يعيشون و ينتعشون في البيئات التي تخلو من الديموقراطية. من غير أنْ يعني هذا أنّ البيئات الديموقراطية تخلو من بعض الفساد. و أمّا كاره الديموقراطية الثاني، أي المتعصّب (الإسلاميّ غالباً)، فهو يكره العلمانيّةَ؛ بسبب فكره القائم على الايديولوجيا. و لأنّ الأخيرة ليس لديها سوى تفسير أوحد، و فكرة واحدة، ما يؤدي تالياً إلى إلغاء العقل؛ فإنّ صاحبها، (أي صاحب الايديولوجيا) يجد نفسه على نقيض قَصيّ مع العلمانية؛ فهذه تتخذّ من العقل مرجعاً و حَكَماً لإدارة شؤون البشر الدنيويّة.الهويّة
و تتركز مطاعن المندّدّين بالعلمانية على أنّ الأخيرة تدمّر «قيمنا و ثوابتنا»، و «تسلخ الأمة عن دينها»، و «تسلب منّا هويّتنا». و لكنّ المطاعن هذه، مضطربة و متدافعة و متلعثمة؛ فالقول أنّ العلمانية تدمّرّ «قيمنا و ثوابتنا» يضعنا أمام تأويليْن لا ثالث لهما: فإمّا أنّ هذه «القيَم و الثوابت» المزعومة محطّمة و مدمّرة أصلاً، و إذاً، لا خسارة في أنْ نولّيها الأدبار، و إمّا أنّ العلمانيين لديهم طاقة خرافية، يسعها تدمير و تحطيم «قيم و ثوابت» هذا الحضارة العظيمة، التي أضاءت مشارق الأرض و مغاربها ذات يوم. و أمّا «الهويّة» فهي لا تُسْتَحضَر إلا في معرض (و هو معرض بائس) شتم «العدو». و أغلب الظنّ أنّ مَنْ يتذّرعون بها هرباً من الإصلاح، لا يسعهم الرؤية إلى التحولّات التي عصفت بالعالم في الثلث الأخير مِنَ القرن المنصرم. فإذا عرفنا أنّ في عداد هؤلاء قوميون و بيروقراطيون و عشائريون و عاميّون و متمركسة؛ فهِمنا كيف تعطّل تفكيرهم و وعيهم، أو بالأحرى لاوعيهم. فالهويّة ليست معطىً ثابتاً أو جامداً، بل هي على النقيض من ذلك؛ فهي تتحرك و تتغيّر و تتبدّل و تتأثّر و تؤثّر. و ربّما كان تجميد الهويّة يعني - في ما يعني - تجميداً و تحجيراً للزمن نفسه. هكذا استنتج (أوكتافيو باث) أنّ «الانسان ليس ما هو كائن عليه؛ و إنما ما يطمح أنْ يكونه». على هذا، يسَعنا التأويل بأنّ الهويّة ابتكار متواصل، و أنّ الإنسان هو مَنْ يَخلق هويّته، بيد أنّ العكس غير صحيح. و هذا كلّه، على النقيض من زعمٍ بعثيٍّ مرتجل، مفاده أنّ الهويّة «قدَر».
ليست إلحاداً
و لعلّ الفهم (أو بالأحرى سوء الفهم) الأبرز للعلمانية هو جعلها صنوَ الإلحاد، و رفعها إلى مصاف «الكُفْر»، و هذان (أي الجعل و الرفع) إلى الخرافة أقرب؛ و ذاك بأنّ العلمانية لا تلغي الدين، و لا ينبغي لها ذلك؛ فالدين تجربة إنسانيّة كبرى و عظيمة. و ربّما كانت المفارقة الظاهرة، هنا، هي أنّ حرية الدين و الاعتقاد تتبدى – أكثر ما تتبدى – في الدول العلمانية؛ فالولايات المتحدة، التي هي قلعة العلمانية، تضمّ على أرضها جميع أديان العالم، و فوق ذلك، يُعَدّ الأمريكيون من أكثر شعوب العالم تديّناً. فالعلمانية، بما هي فصلٌ للدين عن السياسة، حصراً، تُنزّه الدينَ و تُعْليه إلى مرتبة أرفع مما لو كان ملابساً للسياسة. و هي لا تمسّ حقّ الفرد بممارسة طقوس الدين. و لا ريب أنّ في فصل الدين عن السياسة حكمة و مصلحةٌ؛ فأحكام الدّين – من وجه أول - قاطعة مانعة، لا تقبل طعناً أو استئنافاً، و هي من وجه ثانٍ - عامّة و مُلزمة، و ربما مفارِقة، و غالباً، متعالية على الأنام و «ضعفهم» المشهور؛ فهي لا تقبل تأويلاً أو تعليلاً. هكذا يغدو العقل محض أداة بليدة، هدفه شرح و تفسير النصّ الدينيّ، عوضاً عن إبداع فكر و معرفة جديدين، و هكذا يغدو «الكلام» أكثر واقعية من الأشياء؛ بل ربما يقوم «الكلام» مقامَ الواقع، و يترتّب على هذا خضوع الفكر لــ«حقيقة» مسبقة، جاهزة، ناجزة، كاملة و تامّة. و هذا كلّه قد يَصْلح تعليلاً للواقع العربي عموماً، و الأردني خصوصاً؛ فالواقع هذا، و مَنْ يتولّون «صنعه»، أشبه بحراثة في الالفاظ، فالاسم، ها هنا، أهم من الجسم. إذ نسمع تعابير و كلمات لا وجود لها إطلاقاً في العالم المحسوس و الملموس، على مثال: «الوحدة العربية»، «الأمّة»، «اليسار»، «حركات التحرّر»، «التضامن»، «القوميّة»..الخ.
«النخبة» الأردنية
و ربّما كان جديراً التذكير، أنّ العلمانية لا تمنع وصول الأحزاب الدينيّة (الإسلاميّة خصوصاً) إلى الحُكْم. فالإسلاميون الأتراك، وصلوا رئاسةَ الحكومة، و تالياً، رئاسةَ الدولة، من طريق العلمانية، و بواسطتها، و تحت سقفها. و هذه قرينة قويّة على جدوى العلمانية، و عدم تعارضها مع الإسلام (كفكر). لكنْ، في ما خصّ الأردن، ماذا فعلت «النخبة» الأردنيّة لتعزيز القيَم المدنية و العلمانيّة و الليبرالية؟ الجواب، بكثير من الثقة، لم تفعل شيئاً؛ بل ربّما كان دورها معيقاً و سلبياً. فــ«النخبة» تلك، لا تعتقد أنّ المعركتين، الثقافيّة و الاجتماعية تستحقّان الاهتمام؛ بل هي «نخبة» تحتقر الثقافة؛ لأنّ الأخيرة أفكار، و الافكار تعدّد، و التعدّد تَنوّع، و التنوع حريّة، و الحريّة تقود إلى النور و التنوير؛ و هذا ما لا يطيقه أفراد «النخبة» إيّاها؛ فهم في معظمهم مؤدلجون و «ممانعون»، و القضية الثقافية، بالنسبة لهم، تنتمي إلى «صغائر» الأمور؛ فيما هم مشغولون بالقضايا الكبرى، و هم أكبر من أنْ «يلوّثوا» أقلامهم في «السفاسف»، و الأخيرة أصغر من أنْ تسترعي انتباه أصحاب القضايا الجليلة. و الحقّ أنّ «النخبة» الأردنية لا تزعم لنفسها القدرة على التصدّي لمهمة التنوير الثقافيّ، و التحديث الاجتماعيّ؛ و ذاك بأنّها لا تعتقد أنّ هناك مشكلة أصلاً. المشكلة في نظر (أو في قلّة نظر؟) هذه «النخبة» هي مع «قوى الاستكبار العالميّ و الصهيونية»؛ فــ«العدوّ» على الأبواب، يقعد لنا مَقْعدَ الذئب المتربّص بنا ريبَ المنون. غير أنّ كلّ ما تمتلكه «النخبة» المذكورة هو مزاعم و ادّعاءات. لكنّ العاقل هو مَنْ يختبر متانة الروابط بين مزاعمه و قدراته، و مدى استواء الأمرين (المزاعم و القدرات) على مستوىً واحد. و غنيٌّ عن البيان أنّ هذا ليس في واردات تلك «النخبة» و لا في صادراتها.
hishamm126@hotmail.com