كان من المفترض أن يكون عنوان هذا المقال هو " المال السياسي " تماشيا مع المصطلح الذي شاع في الآونة الأخيرة والذي هو – كمصطلح - صناعة أردنية بحتة , لكن الرغبة في الوصول إلى درجة اكبر من الدقة فرضت أن يكون عنوان حديثنا هو " المال الانتخابي " . فالحديث بمجمله يدور حول العملية الانتخابية وتجلياتها , والانتخابات كما تعلمون جزء صغير من ممارسات السياسة وعالمها الواسع . كذلك فان الملاحظ في الآونة الأخيرة أن إضافة الأشياء إلى السياسة باتت وسيلة للترهيب وخلق حالة من التوجس تجاه هذه الأشياء , الإسلام السياسي .. المال السياسي وما قد يجدُّ بعد الآن , كلها مصطلحات تثير الرهبة , ولا ندري في حقيقة الأمر أهي رهبة من المنعوت ( الإسلام , المال ) أم رهبة عميقة الغور في وجدان المواطن العربي من النعت المشترك ( السياسة ) .المال الانتخابي اصطلاحا هو تلك العطايا النقدية أو العينية التي يغدقها مرشح ما على فئة من أبناء دائرته الانتخابية بهدف استمالتهم إلى جانبه والحصول على أصواتهم يوم الاقتراع , وهو بهذه الصفة اختزال لجميع متطلبات النجاح وعوامله في عامل واحد هو المال , وسير بالعملية الديمقراطية نحو طريق يستثني المصلحة العامة وكفاية المرشحين ليفرز بالنتيجة مجلسا هشا ونوابا بعيدين عن هموم الوطن والمواطن .
والملاحظ في موضوع المال الانتخابي أننا نميل إلى اتخاذ المنهج التقليدي في نقد الأمور , فنقول أن ما يحصل هو شراء للذمم ورشوة لضمير المواطن , و رغم أن هذا الكلام لا غبار عليه إلا أن تناوله لن يقدم أو يؤخر شيئا في موضوعنا هذا ما لم نقترب وندقق النظر أكثر لنعلم ما هو المال وما هي الأشياء التي يمكن شراؤها به .
المال مضافا إلى البنين هو زينة الحياة الدنيا ووسيلة الإنسان إلى تلبية احتياجاته والحفاظ على كرامته , وهو كذلك أحد الأولويات الخمس التي سعت الشريعة إلى صونها والمحافظة عليها . أما مكانة المال قياسا إلى الأشياء الأخرى فهي متقدمة جدا في سلم الأولويات بحيث تغدو الأشياء التي تتقدم المال قيمة وأهمية - كالدين والروح والولد والوطن والكرامة والضمير والعقل - قليلة جدا ويكاد يتفق عليها معظم البشر على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم .
كذلك فان مما يتقدم المال أهمية وتستعصي قيمته على عمليات الشراء والبيع هو المكتسبات , والمقصود بالمكتسبات ما يصل إليه الإنسان بجهده وعرقه ونضاله فيصبح ذا مكانة عزيزة على النفس ومصدرا من مصادر الفخر والاعتزاز . وغالبا ما ترتبط هذه المكتسبات بقيم مستمدة من الأولويات التي أسلفنا ذكرها في الفقرة السابقة , فالديمقراطية مثلا مكتسب يحققه المناضلون في سبيل الوطن ومصلحة الجماعة بعد أن تدفع الشعوب ثمنه من دمائها وفلذات أكبادها , لذلك كانت الديمقراطية الحقيقية عند أصحابها مرجعا ومكتسبا ثمينا تهون كل الأشياء في سبيل المحافظة عليه ولا مجال فيه للمساومة المادية .
هنا نستطيع أن نفسر ما يجري من عمليات شراء وبيع في انتخاباتنا البرلمانية , ونستطيع كذلك أن نفسر هذا التناقض الذي يحيرنا للوهلة الأولى عندما نتحدث عن مواطننا صاحب الضمير النقي والكبرياء والأنفة , فحب الأردنيين لوطنهم مضرب الأمثال وولاؤهم لترابهم سمة بارزة من سماتهم , فما الذي يجعل فئات كثيرة منهم ترضى هذا الهوان وتقبل الثمن المادي فتعطي الصوت لمن لا يستحق ؟
السبب هو ضياع القيمة , فالديمقراطية عندنا ليست مكتسبا غاليا , إنها بضاعة هبطت علينا من السماء وهبة يراها بعض أصحاب القرار تلميعا و تجميلا لصور الفساد , هي عند المواطن ألعوبة لا يدرك لها قيمة حقيقية فهو لم يتعب من أجلها ولم يفرضها بناء على احتياجاته وتطلعاته . وهي عند المسئول حجاب يمكنه من تغطية سوءته وتمرير برامجه .
وقد يقول قائل إن الوضع الاقتصادي الصعب يساهم في تغذية هذه النزعة فيجعل المواطن مغلوبا على أمره أمام إغراء المال وسطوته , هذا كلام صحيح لكنه ليس مبررا لهذه الحمى الشرائية المجنونة ولن يكون ذا أثر فيما لو كانت الديمقراطية مكتسبا أهميته متجذرة في وجدان الإنسان وضميره .
ربما علينا أن نفكر جيدا في صنع ديمقراطية خاصة بنا , فهذا النوع من الممارسات يبدو أنه مفصل على غير مقاسنا , نحن بحاجة إلى أن نعرف همومنا ومكامن الضعف في مجتمعاتنا ثم ندرس تاريخنا وتراثنا وتجارب الأمم الأخرى جيدا , قبل أن نقدم في النهاية على الاتفاق على شكل الديمقراطية التي تناسبنا والتي ستكون عندئذ غالية جدا على قلوبنا فلا يمكن شراؤها بالمال أو غيره .
samhm111@hotmail.com