"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة.."
(الإسراء، الآية 82).
كيف يستطيع الصائم توظيف تجربته في احتمال الألم وكبح الأهواء والرغبات، في عملية شفاء وارتقاء بالذات؟
إن الصوم لا يمنح ذلك تلقائيا، ولكنه يمثل المجهود النفسي والبدني الرئيس الذي يمكن أن يوظفه الإنسان في تغيير نفسه.. أن يكون ما يريد. هذه ببساطة الحرية والانعتاق، وهي أيضا غاية الدين والفلسفة؛ أن يغير المرء نفسه! أتحدث هنا عن التخلص من المشاعر والطاقات السلبية (الحسد والحقد والاكتئاب والكبر والسادية والرغبة في الإيذاء والتدمير والحدة والعصابية..)، واكتساب الطاقات الإيجابية التي تغير الإنسان إلى الأفضل (الحب والتسامح والتفاؤل والتواضع وحب الخير للناس). والحرية والانعتاق هما ببساطة الإرادة، وتحويل هذه الإرادة إلى أفعال.
يبدأ الصائم باكتشاف مشاعره المكبوتة والتعرف عليها. هذا الكبت لا يشكلنا فقط على النحو الذي نشعر به أو نخفيه في اللاشعور والعقل الباطن، ولكنه يحتاج إلى طاقة دائمة متواصلة لإدامته والاحتفاظ به. ويمكن لهذا الوفر في الطاقة المبذولة توجيه النفس إلى التعلم والمحبة والتسامح والتأمل والصفاء.
لا يمكن أن ننجح في ذلك من غير رؤية الأشياء كما هي. إذا كانت المشاعر والطاقات السلبية متخفية أو مقنعة بمظاهر من الإيجابية، هي ليست كذلك بالطبع، ولكننا نراها كذلك. ويندر أن نرى الأشياء كما هي بالفعل، ولكنها تتزين "كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا". إن الأصل في هذه الطاقة (تبرير المشاعر والأفكار) أنها طاقة لحماية الذات من الهشاشة والتبعية؛ فالإنسان يسعى إلى أن يكون مستقلا، وهذا امر جميل وضروري، ويمثل دافعا للمبادرة والإبداع، ولكن يجب أن نحذر من تبرير العيوب. والواقع أن جميع العلل مستمدة من طاقة إيجابية أصلية لحماية الذات والارتقاء بها؛ فالفضول والتطفل توظيف لطاقة المعرفة والبحث عنها، والحسد مستمد من الرغبة في أن نكون الأفضل. وليس المطلوب أن يتخلى الإنسان عن قيمه الأصلية، فالمجاهدات التي يبذلها الإنسان في مواجهة أهوائه وعيوبه هي الارتقاء بالذات والغرائز وتوجيهها إيجابيا. ولذلك، فإن الذين يتخلون عن الحسد والحقد بالتبعية للآخرين واحتقار الذات، يقعون في عيوب وعلل جديدة وخطيرة أيضا.. ذلك يشبه من يقلع عينه حتى لا ينظر إلى حرام!
ويبقى السؤال: ما هي الطاقة الإيجابية التي يمنحنا إياها الصوم؟ أعتقد أنها الحرية، وزيادة هذه الحرية إلى أعلى مستوى ممكن. فهذا الامتناع الذاتي المتجرد عن الرغبات والطعام والشراب، والذي يخلو تماما من أي هوى أو رياء، هو سلوك حرّ تماما. فالصوم هو العمل الوحيد الذي لا يعلم عن أدائه أحد إلا الصائم نفسه. الناس تعرف وترى من يصلي أو يزكي أو يحج، ولكن أحدا سواك لا يستطيع أن يعرف إن كنت صائما أو غير صائم. هذه الرياضة الذاتية الطويلة في الحرية هي القاعدة في التغيير والإرادة، ولكن نحتاج أن نعرف إلى أين نمضي بها بالتحديد!
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
الغد