ثورة الشعب السوري ضد النظام تعد من أكثر الثورات العربية كشفاً للحقيقة وكشفاًَ للزيف في الوقت نفسه، فقد بينت وكشفت مواقف جميع الأطراف بوضوح حاسم على المستوى المحلي أولاً وعلى المستوى الإقليمي والدولي،حيث لم تعد الحرب الإعلامية القذرة التي يشنها النظام قادرة على تغطية الحقائق، وكل الجوقة الإعلامية التابعة له أصبحت عاجزة عن ستر سوأة النظام المكشوفة، ولم تستطع بكل ما تملك من سحر على تضليل عيون البشر عن رؤية المشهد عارياً حتى من ورقة التوت.
سورية قبل الثورة كانت تشكل نقطة توازن دقيقة وحساسة بين جميع القوى الإقليمية والدولية، وكل الأطراف الخارجية كانت تتمنى بقاء الوضع السوري على حاله القديم حفظاً لهذا التوازن التقليدي الذي استمر ما يزيد على أربعة عقود مع الزمن ولذلك كلها تواطأت مع النظام إما دعماً أو صمتاً بانتظار إخماد الثورة والقضاء على حركة التمرد كما وعد النظام خلال مدة قصيرة.
فعلى المستوى الإقليمي نجد أن الأطراف الفاعلة المتمثلة "بإسرائيل" وتركيا وإيران، كانت راضية تماماً عن قدرة النظام وسياسته القائمة على حفظ هذا التوازن الدقيق، فإسرائيل راضية عن حفظ حدودها مقابل إزعاج "حزب الله" المدعوم سورياً وإيرانياً، وتركيا استطاعت أن تؤمن اتفاقاً يمنع إيواء قادة "حزب العمال الكردي" وأفراده، مع عقد اتفاقيات اقتصادية رفعت حجم التبادل بينهما من بضع ملايين إلى مليارات الدولارات، أما إيران فترى في سورية العمق الاستراتيجي في المنطقة الذي يعطيها بعد المنافسة الإقليمية.
أما على الصعيد العالمي فروسيا ترى في قاعدة "طرسوس" المطلة على المتوسط، موطئ القدم الوحيد في الشرق الأوسط، وتشكل سورية لها موطن التوازن الدقيق ونقطة التماس مع أمريكا والحلف الغربي، فهي تعض عليها بالنواجذ حتى النهاية.
العامل المتغير الوحيد والجديد في المعادلة السوريّة التقليدية هو الشعب السوري وثورته المتنامية التي تعرضت لأعنف أنواع المواجهة الدموية الساحقة من النظام الذي استثمر في هذا الوضع الإقليمي والعالمي، الذي سمح له بأن يأخذ فرصته الكاملة في إخماد الثورة وسحق المعارضة والمحافظة على الوضع التقليدي القديم باستخدام القوة تحت بصر العالم وسمعه.
ولكن الثورة السورية فاجأت العالم بصمودها الأسطوري الذي ليس له نظير في تاريخ العالم المعاصر، واستطاع الشعب السوري أن يتغلب على بطش النظام وآلته الحربية المتفوقة بالعزيمة والتضحيات وعدد الشهداء، وأيقن الشعب الثائر أن الموت بشرف أفضل من حياة الذل والخنوع المريع، واستطاعت الثورة السورية أن تنتزع إعجاب العالم وتأييده عندما صوت لصالحها (133) دولة من الجمعية العمومية للأمم المتحدة في حين لم يقف مع النظام إلاّ (13) دولة فقط.
الكفة الآن باتت ترجح لصالح الشعب السوري وثورته المظفرة، وان انشقاق رئيس وزراء النظام ورؤساء أجهزة الأمن السياسي، وبعض أعضاء السلك الدبلوماسي يظهر التصدع الكبير في هرم قيادة النظام، وأصبحت أيامه معدودة، أما عن موقف الأطراف الإقليمية والدولية فهي تسلك مسلك الاحتواء للمشهد السوري ومحاولة التكيف مع الوضع الجديد، واسترضاء الشعب وقادة الثورة.
وعندما تنتصر الثورة سوف ينكشف حبل الكذب الذي لن يطول كثيراً وسوف يتوقف مسلسل التضليل البائس الذي لم ينطل على أطفال العرب والأجيال الشابة التي تعيش مرحلة التحول الجذري الحتمي الذي سوف يطوي كل الذين يحاولون الاستمساك بالوضع القديم المتداعي وكل الذين يحاولون الإمساك بعقارب الزمن لمنعها من التقدم إلى الأمام.
الثورة السورية أعطتنا جميعاً وأعطت العالم درساً بالغ الأهمية وعظيم الخطورة؛ الدرس الأول للشعوب، بأن الشعب إذا أراد لن تستطيع قوة في عالم البشر الوقوف في وجه الإرادة الشعبية بالقوة والعنف والجبروت ولن تستطيع وقف حركة الإصلاح والتغيير من خلال البلطجة والتشبيح.
عدد الشهداء كبير، والخسائر كبيرة في الأرواح والأجساد والأموال، ولكن ذلك هو الذي يصنع الحرية ويحفظ الإرادة ونرجو من الله أن يمد بعونه الشعب السوري على إتمام ثورته المجيدة التي ستعيد توحيد سورية، وإعادة بناء الدولة بعيداً عن الفتنة وروح الانتقام والنفس الطائفي.
rohileghrb@yahoo.com
العرب اليوم