يروي لك القصة إياها عشرات المرات، ليؤكد اعتقادا راسخا لديه عن المظلومية أو الاضطهاد أو التمييز. ربما يكون مظلوما أو مضطهدا بالفعل، وربما لا يكون كذلك أبدا، ولكن القصة شكلته وصاغته على نحو يجعله يشعر بالتمييز والحقد والرغبة في الانتقام. ويشعر أيضا بأنه مميز وذكي جدا ومثالي، ولأجل ذلك يتعرض للظلم والتهميش والإقصاء. كلما حاولت تذكيره بالمزايا الخرافية التي يتمتع بها، والفرص التي حصل عليها استثنائيا ولا يستحقها، يزداد شعورا بالظلم، وأنك شريك في إقصائه!
كيف تشكل قصة واحدة شخصا على نحو يشكل فيه مواقفه وأفكاره ومشاعره وسلوكه؟ إنه يستعيد القصة كل يوم عشرات المرات وكل لحظة، فتكون النتيجة كما لو أن القصة تتكرر وتحدث بمقدار ما يتذكرها أو يستحضرها، وكأنه يتعرض لاضطهاد دائم ومتواصل.. هذه الذكريات المستعادة تشكلنا.
وفي المقابل، تجد أشخاصا كثيرين يتعرضون للإساءة والظلم والتمييز، ولكنهم لا يشعرون بذلك، ليس لأنهم لا يدركون ما يتعرضون له، ولا يعني ذلك أيضا أنهم يقبلون، ولكنهم يسلكون بوعي أو بغريزة صحيحة باتجاه ألا يجعلوا الإساءات تشكلهم على نحو سيئ. وهذا ما يفسر لماذا يعيش أشخاص في البيئة نفسها والظروف نفسها والمعاملة نفسها، وبعضهم تشكله هذه السيرة باتجاه العيوب والجريمة والمرض، وبعضهم تدفعه للإبداع والعمل الإيجابي، وبعضهم تدفعه إلى حالة سلبية من القبول والخنوع. صحيح أن هؤلاء الأخيرين لا يبدون خطرين ويساهمون إيجابيا بنسبة جيدة في حياتهم وحياة من حولهم، ولكن هذا الدفاع السلبي قابل للانهيار في أي لحظة، والتحول إلى العكس. هناك جرائم قتل ارتكبها أشخاص تدل سيرتهم على وداعة ومسالمة كبيرة، ولكنه سلام سلبي، قائم على تسويات غير صحيحة مع الذات ومع الآخرين.
أخبرني أحد الأصدقاء بالقصة التالية، والتي وإن كانت تبدو رمزية أو نكتة، ولكنها تعبر عن فكرة تشكيل الذات عبر الذاكرة:
هناك شقيقان يعيشان بجوار بعضهما. أحدهما، وهو الأكبر، عنده سيارة، والصغير يستعير سيارة أخيه بين الفترة والأخرى. صاحب السيارة بالطبع لا يحب أن يعير سيارته، ولكنه يعطيها لأخيه كلما طلبها، ولكنه أيضا يعبر عن عدم رغبته بكثير من الملاحظات والتوصيات لأخيه، وهذا يتضايق ويفهم أن أخاه لا يريد أن يعيره سيارته، ولكن الحاجة صعبة. يذهب الأخ ليستعير سيارة أخيه، وهو يحدث نفسه متخيلا الحوار الذي سوف يحدث.. متى ستعيد السيارة؟ بعد ساعتين.. - لا تتأخر، المرة الماضية تأخرت علي كثيرا وأحرجتني. لا لا لن أتأخر. - حاول أن تتجنب المطبات يا أخي، السيارة رجعت المرة الماضية مش مضبوطة. أنا أتجنب المطبات دائما والله. - وبعدين أنت تعيدها ولا نقطة بنزين، حط فيها شوي اللي أوصل المحطة على الأقل. في هذه اللحظة كان قد وصل إلى بيت أخيه وقرع الجرس، وعندما خرج أخوه بادره بالقول: ما بدي إياك ولا بدي سيارتك، ورجع مسرعا غاضبا.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
الغد