أبو إبراهيم .. وداعاً * هاني الحوراني
02-08-2012 05:51 PM
يصعب على من عرفوا ناجي علوش نعيه، فهو إن غاب عن الحياة فإنه لن يغيب عن وجدان مئات وربما آلاف الذين عرفوه شخصياً في العديد من الساحات العربية، في فلسطين، الأردن، لبنان، سورية، الكويت، وفي العديد من المنابر الفكرية والسياسية العربية الأخرى.
كما يصعب التعريف به وبإرثه فقد كان شخصية قيادية متعددة الأبعاد قد تتفق أو تختلف معها، إلا أن من الصعوبة بمكان أن يحول الاتفاق أو الاختلاف دون رؤية المساحة المشتركة التي ظلت تجمعه مع الآخرين، ولذلك فإن مكانته وقامته كانت فوق الخلافات.
لقد تعرفت على ناجي علوش في أواخر الستينات، حين تجمعت فصائل المقاومة الفلسطينية في الأردن بُعيد حرب 1967، واتخذت منه قاعدة إنطلاق رئيسة للعمل الفلسطيني المقاوم. وكان أبو إبراهيم يمثل لوناً خاصاً ومزاجاً مختلفاً عن بقية قيادات حركة "فتح" منذ ذلك الحين، فقد كان يمثل الوجه الفكري والثقافي الذي غاب عن هذه الحركة في بداياتها، أو كان ضامراً في حركتها العامة. ومنذ تلك السنوات كان له دور بارز في محاولات بناء إطار مهني للمثقفين الفلسطينيين والأردنيين، وفي تجميع صفوفهم في اتحاد يؤدي دوراً كفاحياً إلى جانب وظائفه الثقافية والمهنية.
بعد خروج المقاومة من الأردن شهدت بيروت تجديد الجهود من أجل بناء الاتحاد العام لكتاب فلسطين، الذي كان مفتوح العضوية أمام الأدباء والكتاب العرب، وقد كان لي شرف المشاركة في تأسيس هذه الاتحاد وحضور مؤتمره التأسيسي، من ثم مؤتمراته اللاحقة، والذي لم يلبث أن تحول إلى واحدة من أهم واجهات العمل الفلسطيني، وساحة فسيحة للصراع الفكري والسياسي، ليس فقط بين فصائل المقاومة المتعددة، وإنما أيضاً بين فصائل "فتح" وتياراتها المتنوعة. ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى هذا الاتحاد، ومنها وصفه، تشنيعاً، وتندراً، بأنه كان "اتحاداً للقراء" وليس فقط الكتاب، بفعل التنافس الفصائلي والفتحاوي على توسيع عضويته بكل من هب ودب، حيث كان هذا الاتحاد صورة مصغرة عن م. ت. ف وعن العمل السياسي الفلسطيني، لكن ميزته الرئيسية هو أنه كان الإطار الأكثر إنفتاحاً وتعددية من بين أطر العمل الفلسطيني الأخرى. ويعود الفضل في ذلك إلى ناجي علوش، المؤسس الريادي للاتحاد ورئيسه لسنوات طويلة.
ظل ناجي علوش، كما عرفته، الرمز الأبرز للتيار اليساري في حركة فتح وأكثرها ثباتاً وعناداً في الصراعات التي انفجرت في صفوف حركة فتح، حول البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعيد حرب تشرين 1973، واتخذت طابعاً سافراً وحاداً مع قيادة فتح والمنظمة. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية وحتى خروج المقاومة من بيروت عام 1982، قاد ناجي علوش تياراً متمايزاً عن فتح "الكتيبة الطلابية"، عرف بلونه واسمه، مع رموز يسارية أخرى في حركة فتح، أهم ما كان يميزها هو انفتاحها على الطاقات الشابة اللبنانية ولعبها دوراً مستقلاً في الصراع المحتدم فوق الأراضي اللبنانية.
وكما كان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان صيف عام 1982، وتوزعها على أرجاء الساحات العربية محطة تاريخية فاصلة في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، فإن ذلك التاريخ كان منعطفاً فارقاً في مسار ناجي علوش وحركته السياسية التي باتت مستقلة كلياً عن فتح الرسمية.
وأخشى أن علوش فقد "البوصلة" خلال السنوات التي تلت، فقد ذهب مذاهب شتى في تحالفاته وعلاقاته الفلسطينية والعربية، من التحالف مع صبري البنا (أبو نضال) إلى الاستعانة بالحواضن العربية (العراقية والليبية والسورية) بحثاً، على الأغلب، على مقومات الحضور السياسي والتنظيمي، أما بعد عودته للأردن، فقد ضاعت "هوية" و"نكهة" أبو إبراهيم في محاولاته المبكرة، في تسعينات القرن الماضي، للاندماج في الحياة السياسية الأردنية، حيث لم يحالفه التوفيق في بناء إطار سياسي تنظيمي قابل للحياة.
على أن الوجه الفكري والثقافي لناجي علوش كان، وسيظل، الوجه الأبرز والأكثر ديمومة في مساره. ويجب أن تسجل له مساهماته الفكرية المبكرة في بناء الوعي النضالي والتاريخي حول القضية الفلسطينية، ولا سيما في كتابه "المقاومة العربية في فلسطين" الصادر عام 1967. وقبله كتاب "الثورة والجماهير" (1962). وعموماً اتسمت مؤلفاته اللاحقة بطابعها السجالي حول المواقف والتطورات التي مرت بها الثورة الفلسطينية المعاصرة، فكانت بمثابة مراجع واسنادات ايديولوجية وسياسية لمؤيدي "يسار فتح" في عقدي السبعينات والثمانينات.
لقد تعاملت مع ناجي علوش منذ مطلع السبعينات وحتى نهاية الثمانينات، ولم يحل ما كان يفرق بيننا، تنظيمياً، من التعاون في ساحات العمل المختلفة، الفكرية والنقابية. ولا زلت أذكر فضل ناجي علوش علي، حين كان رئيساً لتحرير مجلة "دراسات عربية" البيروتية، الصادرة عن دار الطليعة، والتي كانت من أهم المجلات الفكرية في سبعينات القرن الماضي. فقد نشر لي أولى أبحاثي الشخصية في مجلته عام 1971، والتي عرفت بي لأول مرة على نطاق واسع، ومن هذه الأبحاث: "التعليم والانتاج في الأردن"، وهي دراسة كنت قد شرعت في إعدادها في نهاية الستينات عن إنفصام العلاقة بين النظام التعليمي وعلاقات الانتاج والسوق في الأردن. ثم دراسة أخرى عن "المقاومة الفلسطينة والحركة الطلابية الأردنية"، وهي "دراسة حالة" تصف وتحلل طبيعة العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين الحركتين، إبان وجود المقاومة في الأردن خلال السنوات 1968/ 1970. وقد وضعت فيها خلاصة تجربتي الطلابية حينذاك. ولا زلت أذكر أيضاً بامتنان أن ناجي علوش، بصفته رئيساً لتحرير مجلة "دراسات عربية" قد صرف لي عن كل دراسة، وبصورة استثنائية مكافئة قدرها 125 ليرة لبنانية، في حين لم يكن من تقاليد المجلة أن تدفع للكتاب مكافئات لقاء النشر. وكان مبلغ 125 ليرة لبنانية، حينذاك، مبلغاً "مهماً" لتصريف أمور الحياة في بيروت في مطلع السبعينات، خاصة بالنسبة لشاب يعيش لأول مرة من كتاباته.
أما المناسبة الثانية لتعاوننا الوثيق، فهي حين وقع اختيارنا على أبو إبراهيم لرئاسة "لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن"، الذي سبق أن أسسها المرحوم ميشيل النمري، في بيروت، وأُعيد احيائها في دمشق، لتلعب أدواراً هامة في إسناد ودعم النضالات الديمقراطية في الأردن خلال الثمانينات من القرن الماضي. فلقد أجمعت القوى السياسية المؤتلفة في إطار لجان الدفاع على اختيار ناجي علوش كرئيس لها، وتم اختياري نائباً للرئيس. ولا أذكر أننا اختلفنا مع أبو إبراهيم على أمر من الأمور. فقد كانت دماثته وثقافته وقدرته على التعامل مع مختلف الفرقاء هي أسلحته الرئيسية في لعب أدواره القيادية.
رحم الله ناجي علوش، فقد كان علماً فكرياً وقامة سياسية وواحداً من رموز حركة التحرر الوطني العربية.
hourani.ujrc@gmail.com
*مركز الأردن الجديد للدراسات