سكن ذلك البيت خمس سنوات ولم يتركه إلاّ ليغادر ذكرياته فيه، لكنه لم ينسه، ويقينا لا يزال طيفه في الشرفة، التي تطلّ على شرفات عديدة مغلقة، على الدوام، وحديقة مهملة.
بيته في الطابق الثالث والأخير لبناية تجاور بنايات متشابهة تشكل إسكاناً متكاملاً تم بناؤه منذ عشرين عاماً، وفي تلك السنة تحديداً، تملك السكّان بيوتهم بعد أن دفعوا كامل أقساطها.
وتعبيراً عن فرحهم، قرروا إعدام المساحات الصغيرة المحاذية لبيوتهم، والمزروعة أشجاراً حرجية وبعض الورد، وتم تشييد جدران إسمنتية بدلاً منها.
تسارع أطفال الحارة خفية إلى كتابة الشتائم على جدران وجدوها خالية ومهيئة لتفريغ كبتهم، وتواصلت حربهم الكلامية رغم اضطرار الأهالي في النهار شطْب كتاباتهم في الليل.
سرعان ما اشتعلت حروب أكبر حين عبّر مراهقون عن مشاعرهم حيال جاراتهم اللواتي كُتبت أسماؤهن بوضوح، إضافة إلى قلوب حب تخترقها السهام.
صحا الآباء غاضبين من تشهير أبناء الجيران ببناتهم، واندلعت مشاجرات كان يُدفع بها الرجال على جدران نشرت غسيلهم "المخبأ" في عتمة السنين.
توصل الجميع إلى اتفاق يقضي بإيقاف الأولاد عن "جرائمهم"، لكن أثناء عودتي إلى المنزل في ليلة "الهدنة"، كان أحد الصبية يرسل إشارة إلى جارته من وراء النافذة لتشغل حاسوبها ويتحادثا عبر الانترنت.
في الشرفة الوحيدة التي تضاء ليلاً، كنت أجلس متنعماً بهدوء لا يشقه إلاّ صيحات شباب الحي تشي بحرمانهم العاطفي، وأحلامهم الكبيرة التي تصطدم بالواقع.
لم أجر حديثاً واحداً مع جيراني، وكنت أنصت لتهامسهم حول غريب يعتصم بالصمت، حتى صحوت يوماً على جاري الخمسيني يعرض توصيلي بسيارة "التاكسي" التي يعمل عليها، فواقفته تأدباً.
في الطريق، كان الجار يشكو انقطاع المياه في صيف قائظ، وسرعان ما انتقل للحديث عن دخله الشهري الذي لا يكفي مصاريف عائلته ورسوم أبنائه الجامعية، وخوفه عليهم بعد أن شبّوا عن الطوق، ومع مرورنا بأول فتاة، أطلق تنهيدة وعبارات تشير إلى حياته التي ينقصها الحب.
انتهى حديثي اليتيم مع جاري السابق، ليرفع صوت المذياع الذي يبث أغاني حماسية تصلح لجنود يقاتلون على الجبهات، ومذيع يتغنى بالأمان.
mahmoud1st@hotmail.com
العرب اليوم