أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السابعة عشرة) ـ الأردن هدد باقتحام السفارة الإسرائيلية واعتقال عملاء الموساد الأربعة
07-11-2007 02:00 AM
العاهل الأردني الراحل نقل عرضا من حماس بهدنة 30 عاما مع إسرائيل قبل أيام من محاولة اغتيال مشعللندن: عن «الشرق الاوسط»
كان احساس الملك حسين، بعد فشل محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان على يد عملاء من الموساد الاسرائيلي بانه شعر بتعرضه للخيانة كبيرا، لأنه وقبل ثلاثة أيام من المحاولة كان مسؤولون إسرائيليون وأردنيون قد اجتمعوا في عمان في إطار التعاون الأمني الروتيني بين الجانبين، وتدخل الملك شخصيا في الحوار لإبلاغ المجتمعين عن عرض من حماس بهدنة. وكان العرض يتعلق بهدنة بين إسرائيل والفلسطينيين، بمن فيهم حماس، تمتد لثلاثين عاما.
وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين، ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد، الكثير من الاسرار عن محاولة اغتيال مشعل وكيف هدد الاردن باقتحام السفارة الاسرائيلية واعتقال عملاء الموساد. كما تكشف ان نتانياهو رفض في البداية اعطاء الترياق لانقاذ مشعل ولم يقبل الا بعد تدخل كلينتون. وتكشف ايضا ان قرار عملية الاغتيال اتخذه نتانياهو بنفسه رغم معارضة الاستخبارات الاسرائيلية.
قام علي شكري بتسليم خطاب الملك (العاهل الاردني الراحل الملك حسين) بيده إلى رئيس الوزراء في مكتبه بالقدس. كان دوري جولد معه. لم يكن نتانياهو قادرا أو راغبا في فهم التصوّر الأردني حول الأحداث المحيطة بهارحوما (جبل أبو غنيم). وزعم أن 75% من الأراضي التي يرغبون في بنائها قد تم بيعها سلفا من مُلاكها العرب لكنه لم يقدّم برهانا ولم يصدقه شكري. وحاول شكري أن يوضح انه حتى إذا كانت بعض الأراضي قد تم شراؤها فإن العرب ينظرون إلى العملية بأكملها كعملية اعتباطية وقمعية. رفض نتانياهو هذه الحجج ورفض أن يتزحزح عن رأيه. كان رده على رسالة الملك حسين المؤثرة يفتقر إلى الحساسية وكان عديم الصلة بموضوع الرسالة. رفض نتانياهو أن تكون له أي مسؤولية فيما يتعلق بالعوائق التي تعترض طريق عملية السلام، وأكد أن عملية السلام كانت أثناء فترة الانتخابات الأخيرة «تمر بآلام الاحتضار». وأنه ذهب أبعد من ذلك وسعى لأن يكون له شرف المساهمة في احيائها قائلاً : «وبدلا من أن اترك اتفاقية اوسلو تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد الانتخابات فإنني بحثت عن طريقة لمحاولة إحيائها».
عبر نتانياهو عن دهشته للنبرة الشخصية في الهجوم عليه. وقد أزيحت جانبا كل الاتهامات المحددة التي حوتها رسالة الملك بوصفها «صعوبات حتمية تبرز على نحو غير متوقع خلال عملية السلام». وأظهر نتانياهو بجلاء أنه سيظل ملتزما بخطة البناء السكنية في القدس الشرقي. وأخيرا ناشد الملك ألا يدع العقبات التي تعترض المسار الفلسطيني تؤثر على العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية. وكتب قائلا: «إن من واجبنا تفهم دورنا التاريخي المشترك وألا ندع العقبات التي تعترض المسار الفلسطيني أن تلقي بظلالها على التفاهمات التي توصلنا إليها في أيام من سبقوني». ليس من الواضح أي سابقين أو تفاهمات كانت في ذهن نتانياهو. ولكن كان من الصعب تحاشي الشعور بأنه كان يقول للملك أن يهتم بشؤونه الخاصة وألا يتدخل في الشؤون الإسرائيلية ـ الفلسطينية. لم يكن هناك ما يشير إلى وجود أسف ولا تنازل لوجهة نظر الملك ولا أثر لأي فكرة بناءة واحدة في رد نتانياهو.
وقعت أكثر الأحداث مأساوية في 13 مارس (اذار) حينما أطلق جندي أردني مخبول النار وقتل 9 تلميذات إسرائيليات وأصاب 6 أخريات بجراح في «جزيرة السلام» الواقعة في نقطة العبور نهاريا في الشمال. كانت المنطقة حينذاك قد أعيدت حديثا إلى السيادة الأردنية بموجب بنود اتفاقية السلام وكانت الفتيات في نزهة مدرسية. قطع الملك والملكة، اللذان كانا في زيارة رسمية لمدريد، زيارتهما في الحال وعادا أدراجهما إلى الأردن وقال الملك عند وصوله «لا أستطيع أن أقدم ما يكفي من التعازي أو اعبر بما فيه الكفاية عن حزني الشخصي لأمهات وآباء وأخوة هؤلاء الأطفال الذين قضوا نحبهم اليوم». كان غاضبا غضبا شديدا على انهيار النظام في الجيش الذي سمح لمثل هذا الحادث أن يقع. كان الملك قد ظل لسنوات عديدة يقول لمن حوله، خصوصا العسكريين، إن جيرانهم يعانون من عقدة تتعلق بالأمن وانه يجب أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار وأنهم يحتاجون لتطمينات مستمرة. وقد شعر الآن بأن الجيش قد خذله ووجه تأنيبا رسميا قاسيا للمسؤولين عما حدث. وقال إن إطلاق النار على الأطفال هو أمر لا يجب أن يحدث في زمن الحرب فما بال أن يحدث ذلك وهم في حالة سلام.
بعد ثلاثة أيام من الحادث قام الملك حسين بزيارة غير مسبوقة إلى قرية بيت شيميش الإسرائيلية لتقديم تعازيه الشخصية لأسر الضحايا. وفي منازل الأسر المكلومة انحنى على ركبتيه وشاركهم حزنهم. وقد نالت مشاعر الملك حسين الإنسانية البسيطة التقدير ليس فقط من الأسر المكلومة وإنما أيضا من الشعب الإسرائيلي كله. ولكن خطوة الملك حسين هذه فُسرت في العالم العربي بشكل مختلف.
وأصر الملك أن تنقل كل زيارة من زياراته على التلفزيون الأردني بالرغم من الغضب الذي كان يعلم أن ذلك النقل التلفزيوني سيصعده بين مجموعات المتطرفين في الأردن. كان يريد أن يعلم الجميع ثمن العنف. وقال لإحدى الأسر «إذا كانت هناك أي غاية لحياتي فإنها ستكون لأجل أن أتأكد ألا يعاني كل الأطفال ما عاناه جيلنا».
كان تفاؤل الملك حسين الطبيعي قد وهن. وكان توتره الناتج عن عملية السلام قد بدأ يظهر. وصار يواجه صعوبات في الخلود للنوم ليلا. وقالت زوجته «تسبب التوجه قصير النظر لنتانياهو وللمتشددين في حكومته في إحداث ضغط هائل على الملك لنقض عملية السلام. ان كل ما عمل من اجله طوال حياته وكل علاقة كان قد بناها باجتهاد على أساس الثقة والاحترام وكل حلم بالسلام والرفاهية كان يحلم به لأجل أطفال الأردن قد تحول إلى كابوس. وما عدت اعلم حقيقة إلى أي مدى سيستطيع أن يتحمل أكثر».
وفي الوقت الذي بدت فيه الأشياء وكأنها تتجه إلى أقصى حالات السوء حاول يوم الخميس 25 سبتمبر (ايلول) 1997 اثنان من عملاء الموساد يحملان جوازات سفر كندية اغتيال مواطن أردني في وضح النهار وفي شوارع العاصمة الأردنية. كان هدف العملية هو خالد مشعل رئيس مكتب حركة حماس في عمان. كانت حماس قد أعلنت قبل ذلك عن عمليتين انتحاريتين في القدس. وقرّر نتانياهو اغتيال قادة حماس انتقاما من العمليتين واختير مشعل كأول هدف. كانت وسيلة الاغتيال هي حقن سم بطيء الأثر في أذنه أثناء دخوله إلى مكتبه في عمان. تم حقن مشعل لكنه لم يقتل بينما استطاع حراسه القبض على عميلي الموساد. كان نتانياهو هو الذي أعطى الأوامر بالعملية. لم يكن قائد أركان الجيش الإسرائيلي، ولا مدير استخباراته، يعلمان بالمهمة بينما كان رئيس محطة الموساد في عمان معارضا للعملية بسبب خوفه من أن تؤدي إلى الإضرار بالعلاقات بين إسرائيل والأردن، لكن نتانياهو أعطى الأوامر بالعملية رغما عن ذلك، وأرسل إلى عمان فريقا لتنفيذ العملية لا يقل عن 8 أشخاص، اثنان منهم اعتقلتهما السلطات الأردنية، ولجأ أربعة آخرون إلى السفارة الإسرائيلية بعد إجهاض العملية.
قال الملك حسين، الذي يعتبر أفضل صديق لإسرائيل، بعد فشل محاولة الاغتيال إنه شعر «وكأن شخصا ما قد بصق على وجهي». كان إحساسه بتعرضه للخيانة كبيرا، لأنه وقبل ثلاثة أيام من المحاولة كان مسؤولون إسرائيليون وأردنيون قد ناقشوا موضوع إرهاب الجماعات الإسلامية. وقد تم الاجتماع في عمان في إطار التعاون الأمني الروتيني بين الجانبين. وقد تدخل الملك شخصيا في الحوار لإبلاغ المجتمعين عن عرض من حماس بهدنة. وكان العرض يتعلق بهدنة بين إسرائيل والفلسطينيين، بمن فيهم حماس، تمتد لثلاثين عاما. وطلب بان ينقل هذا العرض مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي. لذلك كان مندهشا أكثر وغاضبا حينما علم أن نتانياهو شخصيا هو الذي أمر بالقيام بالعملية في العاصمة الأردنية.
اتصل نتانياهو هاتفيا بالملك حسين من مقر قيادة الموساد، حال سماعه بفشل العملية، ومن الواضح انه لم يكن يأخذ في الحسبان احتمال أن تفشل العملية. طلب نتانياهو من الملك حسين مقابلة الجنرال داني ياتوم رئيس الموساد في اقرب وقت ممكن. لم يشر نتانياهو إلى سبب الاجتماع مع ياتوم وافترض أن الأمر مرتبط بما اقترحته حماس من هدنة. عند وصول ياتوم كان الملك قد تلقى تنويرا كاملا حول العملية الفاشلة. ذهب ياتوم إلى عمان بمفرده في طائرة خاصة واستقبل ببرود. كان الجنرال علي شكري، والجنرال سميح بطيخي رئيس شعبة الاستخبارات العامة، في الاستقبال أيضا. كان ياتوم وأسرته قد امضوا عطلة نهاية الأسبوع الذي سبق العملية في العقبة وقد احتفى بهما الملك شخصيا. لقد أثار حيرة الملك أن يقدم شخص، عامله كصديق، على التورط في عمل قذر كهذا. أوضح ياتوم أن الشخصين المحتجزين لدى الشرطة هما بالفعل عملاء للموساد. فقال له الملك حسين إن مثل هذا السلوك لا يمكن التسامح معه، ثم خرج من الاجتماع. وتقدم بطيخي في توبيخ ياتوم لخيانتهم. أجاب ياتوم أن مشعل يرأس عمليات حماس الإرهابية. ورد الأردنيون بأنه حتى لو كان ذلك صحيحا فانه ليس من حق إسرائيل أن تطلق يدها بهذه الصورة في بلادهم. استشاط بطيخي غضبا وخرج من الاجتماع. تعرض ياتوم للتوبيخ من الجميع وأجبر على المغادرة دون أن يحصل على مقابلة أو معلومات عن مرتكبي الجريمة. كان ذلك احد اقصر الاجتماعات في تاريخ سجل العلاقات الإسرائيلية ـ الأردنية.
كانت المشكلة الأكثر إلحاحا بالنسبة للأردنيين هي كيفية انقاذ حياة خالد مشعل الذي يوجد في غرفة العناية المكثفة في المستشفى، وفي هذا يحتاجون لترياق السم الذي حقن به مشعل. وذكر أن نتانياهو اعتبر أن الترياق من المقدرات القيمة للدولة ولا يمكن كشفه. هدّد الأردنيون بالهجوم على السفارة الإسرائيلية واعتقال عملاء الموساد الأربعة الذين لجأوا إليها واستعد الجيش للهجوم ووضع الكولونيل عبد الله الابن الأكبر للملك وقائد القوات الخاصة في قيادة العملية.
لم تلن إسرائيل إلا بعد أن اجبرها تدخل الرئيس كلينتون على ذلك. اتصل الملك حسين بكلينتون لإبلاغه بالأزمة وتعريفه بأن مستقبل اتفاقية السلام متصل بحياة مواطن أردني تم تسميمه. وقال حسين انه إذا مات مشعل فانه سيذهب إلى التلفزيون في مساء اليوم نفسه ويكشف القصة كلها ويجمد اتفاقية السلام ويقدم منفذي العملية لمحاكمة علنية في الأردن. صعق كلينتون وقال عن نتانياهو متعجبا «هذا الرجل يصعب التعامل معه!» وأضاف قائلا «إن نتانياهو لا يضر بالمصالح الأردنية والاميركية وحدها وإنما يعرض عملية السلام في الشرق الأوسط بأكملها للخطر» وحاول كلينتون تهدئة الملك حسين وناشده ألا يقطع العلاقات مع إسرائيل. ثم اتصل بعد قليل ليقول إن نتانياهو وافق على السماح بكشف الترياق. وبعد منتصف الليل بقليل وصل طبيب إسرائيلي على متن طائرة صغيرة نقل إلى المستشفى. لكن الأطباء لم يريدوا الدخول في أي مغامرة تجريب للترياق الذي جلبه الإسرائيليون. وبدلا عن ذلك أعطي مشعل دواء صحيحا من الإمدادات الطبية بمخازن المستشفى وتعافى.
جمّد الأردن كل أشكال التعاون الأمني مع إسرائيل بعد الاجتماع الذي تم مع ياتوم. ووجهت كل جهود إسرائيل بإرسال وفود رفيعة المستوى بعدم القبول من جانب الملك، فقد شعر انه تعرض شخصيا للخيانة ولا يريد أن يرى أي إسرائيلي. وطلب تحديدا ألا يقحم هاليفي في الموضوع فقد كان يقدر كثيرا علاقته به ولم يكن يريد لها أن تتأثر بهذا الفصل القذر. أما هاليفي فانه استجاب لدعوة نتانياهو اليائسة لتقديم المساعدة وترك موقعه في بروكسل على عجل وأتى إلى القدس. لم يكن يريد أن يكون تدخله في الموضوع علنيا لأنه يعتبر أن العلاقة التي كان قد أنشأها مع الأسرة الهاشمية بمثابة رصيد قومي وليس مجرد علاقة شخصية. نظر هاليفي للموضوع من وجهة نظر الملك حسين. كان الملك قد قام بخطوة شجاعة بقيادة بلاده في التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل في وجه معارضة شديدة من أغلبية مواطني بلاده. وكانت علاقته مع حركة الأخوان المسلمين علاقة حساسة، فهي حليفة لحماس، وقد جاءت محاولة اغتيال مشعل في أسوأ وقت ممكن. لقد وضعت إسرائيل الملك حسين في وضع شديد الإحراج وعلى إسرائيل أن تحل مشكلته أولا كي تحل مشكلتها. إذا أطلق الملك سراح العملاء الإسرائيليين الستة سينظر له شعبه كمتعاون مع الموساد. والفكرة التي تقدم بها هاليفي كانت تتلخص في أن يطلق سراح الشيخ احمد ياسين القائد الروحي لحماس، الذي كان يرزح في سجن إسرائيلي. وهذا الأمر قد يحمل الملك على إطلاق سراح العملاء الستة. نالت فكرة هاليفي تأييدا قليلا لكن نتانياهو سمح له بتجريبها مع الملك حسين، ذهب هاليفي إلى عمان يوم الأحد 28 سبتمبر وقابله الأمير الحسن والجنرال بطيخي. وبعد الاستماع لسلسلة من الشكاوى تقدم بمقترحه فيما يتعلق بالشيخ ياسين. قال الأمير حسن إن المقترح يستحق النظر إليه، لكن بطيخي اتخذ خطا مغايرا، مشيرا إلى أن حل الأزمة يتطلب إطلاق المزيد من السجناء من جانب إسرائيل. وفي وقت مبكر من النهار ذهب هاليفي لمقابلة الملك الذي لم يبذل جهدا في كتمان مشاعره المريرة فيما يتعلق بما حدث. لكنه لمّح إلى أنه في الامكان قبول عرض إطلاق سراح الشيخ ياسين وسجناء آخرين لم يحددوا بعد. حصل هاليفي على تنازلين، أولهما أن الملك سمح له، رغم مقاومة بطيخي الشديدة، بأخذ عملاء الموساد الأربعة من السفارة معه إلى إسرائيل. والتنازل الثاني هو أن الملك وافق أن يأتي نتانياهو إلى عمان في ذلك المساء نفسه لتمتين التفاهمات التي بدأت تظهر.
قرب منتصف الليل غادرت طائرة مروحية القدس تحمل وفدا كبيرا ضم رئيس الوزراء، وآرييل شارون وزير البنى التحتية القومية، واسحق مردخاي وزير الدفاع، وأفرايم هاليفي، والياكيم روبنشتاين، النائب العام وعددا من المساعدين. لم يكن الملك يرغب في رؤية نتانياهو، لذلك طلب من الامير حسن وبطيخي أن يتصديا للحوار. وفي الحال اتضح أن إطلاق الشخصين المعتقلين صار وشيكا. وتم التوصل إلى تفاهم حول مبادئ الصفقة لكن تفاصيل التفاوض حولها تركت لكل من الياكيم روبنشتاين وارييل شارون. أما هاليفي فانه بعد أن أنقذ رئيس وزرائه من وضع شائك للغاية رجع إلى مكان عمله في بروكسل. ومن الذكريات التي تبقت لدى روبنشتاين عن الاجتماع أن الملك حسين ظل يردد «لماذا؟ لماذا؟».
لم يتأخر شارون أبدا في اغتنام الفرص. وفي الاجتماع مع الملك نأى شارون بنفسه عن العملية الخرقاء التي وصفها بأنها «خطأ فادح». كان مستشار شارون في الشؤون العربية هو مجالي وهبه، وهو درزي من بيت جان في الشمال وعضو في الكنيست، كان في السابق كولونيلا في قوات الدفاع الإسرائيلية. وقد ذكر وهبه انه بعد وقت وجيز من عمله مع شارون في عام 1996 اتصل به علي شكري ودعاه إلى لقاء مع الملك حسين في عمان. ومن المرجح أن يكون وهبه هو المسؤول الإسرائيلي الوحيد الذي تحدث إلى الملك باللغة العربية. وخلال الاجتماع قال وهبه انه تأثرا كثيرا لان الاجتماع كان أول مناسبة له للقاء الملك. وقال له الملك «يا بني تصرف وكأنك في منزلك». تحدث وهبه عن جده الذي التقى الملك عبد الله جد الملك حسين. وتحدث الملك حسين إلى وهبه عن خطئه في الانضمام إلى الحرب ضد إسرائيل عام 1967. وتحذيره عام 1973 الذي لم يستمع له احد. وامتد الاجتماع لخمس ساعات وفي النهاية تم الاتفاق على إقامة قناة اتصال بين القصر وشارون.
بعد محاولة اغتيال خالد مشعل وافق الملك على مضض على لقاء شارون. ونصح شكري الملك بأن شارون يكن كرها شديدا لنتانياهو وانه ينتظر الفرصة للإطاحة به. تحدث شارون بالعبرية مع الملك وترجم وهبه حديثه إلى العربية. وقال شارون «يا جلالة الملك، إذا سمحت لي بأخذ عميلي الموساد سأقيدهما كالصبيان، وكعقاب مني لهما على تخبطهما سأجلس عليهما طوال طريق العودة. وكما ترى فإنني لست من أصحاب الوزن الخفيف». تم إبرام الصفقة وأطلق الأردن سراح كل عملاء الموساد الباقين مقابل إطلاق سراح الشيخ احمد ياسين و23 أردنيا و50 فلسطينيا كانوا معتقلين في السجون الإسرائيلية. بعد الاجتماع انتحى شكري بوهبه جانبا وقال له «عندي نصيحة لك. إذا كان لي أن أضعها على نحو مخفف فانا أقول إن جلالة الملك لا يحب رئيس وزرائكم ومن الأفضل، من الآن ولاحقا، أن تتوليا أنت وشارون معالجة هذا الأمر». كان عدم الثقة متبادلا بين نتانياهو وشارون لكن بعد كارثة عمان سلم نتانياهو معالجة الأمر لمنافسه القوي. كان الملك حسين وشقيقه قلقين في السابق حول إمكانية تعاون إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على الإطاحة بالبيت الهاشمي. والآن جاء دور الفلسطينيين للقلق حول ما إذا كان حسين وارييل شارون يعملان بتعاون وثيق ضدهم.
ربط مسؤولون أردنيون بين محاولة الاغتيال الخرقاء وعملية السلام. وذكّروا بأن حماس ابتعدت عن القيام بهجمات إرهابية خارج حدود إسرائيل والأراضي المحتلة ونظروا إلى محاولة اغتيال مشعل خارج هذه الحدود بأنها محاولة من إسرائيل لخلق استفزاز لا يمكن التسامح معه وأنها ستجبر حماس على الرد فتلقي إسرائيل اللوم على عرفات بحجة مسؤوليته عن شن موجة عنف جديدة مما سيجمد مجددا عملية السلام. وفي هذا السياق فان عرض حماس لهدنة الثلاثين عاما والتي بعثها الملك حسين لنتانياهو قد يفترض أن تكون لها دلالتها. وقد زعم نتانياهو فيما بعد انه لم يتلق العرض إلا بعد نهاية العملية، لكن لم يصدقه احد في الأردن. لقد قدمت الرسالة بواسطة الملك حسين نفسه لديفيد سيلبيرج مسؤول الموساد الذي كان مقربا لدى الملك، وذلك في رسالة عاجلة إلى نتانياهو. وقال سيلبيرج لزملائه الأردنيين انه تأكد من أن تقريره قد وضع على مكتب رئيس الوزراء بمجرد عودته قبل ثلاثة أيام من الهجوم على مشعل. كان استنتاج الملك حسين بسيطا، وتلخص في التالي: نتانياهو يندفع نحو تحطيم السلام. كان الملك حسين يعتقد أن نتانياهو بعث له برسالة (من خلال العملية) فحواها أن السلام مع الأردن ليس مهما بالنسبة له وان السلام مع الفلسطينيين اقل أهمية حتى من ذاك. كما أن حدوث العملية الفاشلة بعد عرض حماس بالهدنة يعني أن إسرائيل غير مهتمة بها.
كانت تبعات عملية مشعل هذه مضرة للغاية لاسرائيل. فقد جمّد الأردن تعاونه الأمني معها وطالب بإغلاق محطة الموساد في عمان وسعى إلى استقالة الجنرال ياتوم. وقد أضعفت أيضا العملية الملك حسين الذي ظلت اتفاقيته للسلام مع إسرائيل لا تحظى بالتأييد وسط شعبه بالقدر الذي تحظى به بين الإسرائيليين.
بعد زيارة للملك حسين إلى واشنطن عبر خلالها العديد من قادة اليهود الاميركيين له عن فزعهم من توجه نتانياهو.. قام حسين وزوجته بزيارة إلى لندن ونزلا في منزلهما بحي كينزنغتون. طلب نتانياهو عقد اجتماع عاجل هناك. ويبدو أن مؤيديه من اليهود الاميركيين هم الذين حثوه على ذلك. كانت الملكة نور في مساء اليوم التالي في الداخل، وكان ضباط البروتوكول قد وافقوا على أن يحضر نتانياهو وحده، لذلك فان الملكة نور اندهشت عند إخطارها أن زوجة نتانياهو تصحبه فنزلت كي تقوم بواجب الضيافة بعيدا عن السياسة لكنها وجدت نفسها، بدون أن تقصد، تخوض في حقل من الألغام. كانت الملكة نور تود أن تركز على الصلات الايجابية بين العرب وإسرائيل في المجالات المؤسسية والأعمال والصلات الفردية والتي تطورت خلال السنوات الأخيرة. وكجزء من تقدم عملية السلام فان مما يشجع أن يُرى المؤرخون العرب والإسرائيليون والأكاديميون قد شرعوا في مراجعة الكتب المدرسية والروايات التاريخية بهدف تصحيح الدعاية الصادرة عن كلا الجانبين، فقالت السيدة نتانياهو بغضب وخشونة «ماذا تعنين بالدعاية» فردت نور بأن احد الأمثلة للأساطير التي تمثل تشويها هي وصف فلسطين بأنها «ارض بدون شعب لشعب بدون ارض» فقالت سارة نتانياهو «حينما جاء اليهود إلى هذه المنطقة لم يكن بها عرب. لقد جاءوا بحثا عن العمل بعد أن بنينا المدن. لم يكن هناك احد قبل ذلك».
فردت نور «أنا متأكدة أن مؤرخيكم لا يوافقون على أن هذا صحيح». كانت تلك المناقشة مصدر تأمل للملكة نور، ما دفعها للتساؤل عما إذا كان نتانياهو وزوجته يؤمنان بأساطير كهذه. وإذا كان الأمر كذلك فما هي التصورات الوهمية الأخرى التي تعيق عملهما معا في سبيل الوصول إلى سلام دائم.
أضرّت خيبة الأمل في الاتفاقية من موقف الملك حسين وجاء رد فعله على شكل تبني إجراءات تسلطية لقمع الانشقاقات. تم تعديل قانون الصحافة بغرض تمكين الحكومة من اتخاذ إجراءات عقابية ضد الصحف المعارضة، وتوقف الملك عن الاستماع لغيره بعد أن كان مستمعا جيدا في الماضي، وصار غاضبا بعد أن كان مشهودا له بصبره، وتلاشت رؤية الملكية الدستورية التي كانت ملهمة له في الثمانينات. لم يعد يهتم بالبرلمان، وصار غير متسامح مع النقد الذي يوجه لسياساته، كما صار يعتبر معارضة التطبيع معارضة غير شرعية. وقد وصلت الاجراءات الى درجة أن قررت الأحزاب الإسلامية الرئيسية في البرلمان وبعض السياسيين من التيار الرئيسي مثل رئيس الوزراء احمد عبيدات مقاطعة الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 1997.
اتخذ الملك حسين قرب نهاية العام قرارا بالمشاركة كلاعب رئيسي في المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي 24 ديسمبر أصدر خطابا مفتوحا لرئيس الوزراء عبد السلام مجالي عن موقف الأردن في كل ما يتعلق بموضوعات جدول أعمال الوضع النهائي. وكانت الخلفية تستند إلى «ما يبدو محاولة مستمرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بتحطيم اتفاقيات اوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين». وكانت الموضوعات الأساسية هي الأمن والقدس والسيادة. وكانت هناك مزاعم لحزب الليكود بأن «إسرائيل تحتاج لاستعادة وادي الأردن لحمايتها وحماية الأردن أيضا من وجود نزعة توحيدية تحررية للكيان الفلسطيني». وقد أوضح الملك حسين أن «هذه المزاعم لا أساس لها وأنها مرفوضة تماما». وسلط الضوء على التزام الأردن بدور خاص في الأماكن المقدسة بالقطاع القديم للقدس كما ورد في الاتفاقية. وأخيرا أعلن الملك حسين عن نيته في لعب دور مباشر في الطور التالي من المفاوضات. استؤنف التعاون الأمني مع إسرائيل في بداية 1998 لكن البرود كان يخيم على الأجواء. أعلن نتانياهو انه ليس في نيته الانسحاب من وادي الأردن، ما آثار غضب الملك حسين فبعث إلى نتانياهو برسالة يدين فيها تصريحه بوصفه إهانة لمملكته وانتهاكا لالتزامات إسرائيل. عاد، للعلاقات بين عمان والقدس، بعض دفئها القديم حينما تم استبدال الجنرال داني ياتوم بأفرايم هاليفي كرئيس للموساد. ولكن نتانياهو كان يريد أن يظهر للجمهوريين المتشددين والمحافظين اليهود في أميركا بأن إسرائيل في ظل قيادته تعتبر ذخيرة استراتيجية وانه يحقق نجاحات ويسير على خطى اسحق رابين. وكان خطاب نتانياهو لليمين الأميركي هو أن مصالح الولايات المتحدة ومصالح اللوبي الإسرائيلي هي مصالحه. وأنه لن يقدم على إقامة سلام مع العراق حتى لو كان في ذلك عزل سورية. وقد زعم أن صدام ما زال يطور أسلحة الدمار الشامل والصواريخ طويلة المدى.
* غدا: الإصابة بالسرطان وإقامة الملك في مايو كلنيك