حين يختلط سواد الليل بشمس النهار
د. رلى الفرا الحروب
07-11-2007 02:00 AM
بعد يومين تعود الذكرى الأليمة للتاسع من نوفمبر 2005 لتطل علينا برؤوسها المتعددة السوداء التي تحاكي رأس ميدوزا قبحا ومكرا وقسوة.
الأردن الهادئ الواثق هزته تلك التفجيرات الثلاث تماما كما لو أن أطلس إله الإغريق الشهير الذي يحمل الكرة الأرضية على كتفيه قد تخلى عن مهمته وترك لواحد من ذينك الكتفين الجبارين الفرصة ليستريح من أعبائه، فسمعت أصداء تلك الاستراحة في كل أرجاء العالم.ومع أن تجربتنا المحدودة التي عايشناها في تلك الليلة البهماء لا تقارن بما يتعرض له جيراننا من فظائع وأهوال على مدار الساعة تتضاءل أمامها مصيبتنا لتغدو أشبه بطوفان نهر صغير في قرية وادعة مقارنة بالبراكين التي تحرق الأخضر واليابس في محيطنا الغارق في حمم اللافا، إلا أن تلك التجربة تركت بصمات عميقة على حياة سكان تلك القرية المستكينة بين أحضان الجبال.
نعم، لقد طارت رؤوس جراء ذلك الحدث المشؤوم، ولكن الرؤوس التي استبدلتها جاءت تحمل في جعبتها ما يكفي من استراتيجيات وتكتيكات لتؤمن لنا ذلك الأمن الذي ظننا أنه فارقنا ليلة عرس!!!
لقد بات الأمن أولوية من جديد، ولكن تلك المجموعة المتمركزة حول الهدف أدركت أن الأمن مفهوم شامل متكامل، وأن الإرهاب وإن يكن عدو الدول الآمنة، إلا أنه ليس العدو الوحيد، فالفقر والبطالة والفساد وغياب المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والحريات هي أعداء أشد ضراوة، وعلى من يسعى إلى تحقيق الأمن أن يحارب كل أولئك الأعداء مجتمعين.
من هنا، وجدنا مؤسسة أمنية هامة كالجيش تضطلع بأعباء مجتمعية واقتصادية غير مألوفة، كان آخرها المشروع الوطني للتشغيل والتدريب الذي افتتحه جلالة الملك عبد الله الثاني أمس الأول، ومؤسسة أمنية أخرى كالأمن العام تنشئ إذاعة وطنية تلبي بالفعل مفهوم الأمن الإعلامي الذي يتكامل مع الأمن السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، كما تنشئ مشاريع مجتمعية تسعى إلى تأمين الأسرة ودعم المرأة وحماية المراهقين والشباب، ومؤسسة أمنية ثالثة كالمخابرات تسن سنونها ضد الفساد عبر دائرتها العريقة.
هذه بعض من الأمثلة التي تؤكد إحياء مفهوم الأمن باعتباره كلا متكاملا لا أجزاء منقوصة، وهي أمثلة لاقت القبول في الشارع وحققت نجاحات تدعو إلى التفاؤل بمستقبل ذلك التعاون الفعال بين المؤسسات الأمنية والمؤسسات الاجتماعية والمدنية دون أن يتغول الأمني على السياسي أو يصادر الأمني المجتمعي، وهو نموذج فريد لا تشاركنا فيه الكثير من الدول، ولكنه أثبت كفاءة لدينا، وطالما أنه يعمل ويؤثر ويطور، فمرحبا به، مع إدراكنا أن النماذج ترتبط غالبا بمراحل، وتغادر حين تتغير المرحلة مفسحة المجال أمام تكون نماذج جديدة.
وإن كنا ما زلنا نعاني من بعض المشكلات هنا وهناك الناجمة عن عدم وضوح الرؤى، بل وتناقضها أحيانا على مستوى صناع القرار الثانويين، كما نعاني من ضعف الأداء وترهله في بعض المواقع رغم الطموحات العريضة والأفكار العظيمة التي تحملها قيادات الصف الأول، ومع أن مجتمعنا لم يصل بعد إلى مستوى النضج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نطمح إليه على كافة المستويات، إلا أن أمورنا تسير في الاتجاه الصحيح، رغم كل الظروف القاسية التي نواجه بها رغم إرادتنا، ورغم قدرنا الذي حكم علينا بالوجود في هذه البقعة وبهذه الإمكانات المحدودة، ورغم كل المؤامرات التي تحيط بنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ورغم كل الأعاصير التي حطمت أشرعة غيرنا.
المجتمعات الحية الصحية هي تلك المجتمعات التي تفتح نوافذها لأشعة الشمس وتسمح لجراحيها بمعالجة أمراضها واستئصال أورامها...هذه هي المجتمعات التي تعيش وتنمو وتتوسع، أما تلك التي تخنق الحريات وتصادر الكلمات وتقيم بين المرء وطموحه سدودا من الفساد والرشاوى والمحسوبيات، فهي مجتمعات محكوم عليها بالتعفن والموت، ولن تقدر أبدا على مواجهة تحديات العولمة وتحديات الإقليم وتحديات التغير.
حين نكتب عن الخلل نكتب لأننا نريد الإصلاح، ونطمح إلى الكمال وفق المعايير الإنسانية المقبولة للكمال، وحين نشير إلى الصواب، نسعى إلى تعزيز من يحسنون العمل ليواصلوا ذلك العمل الطيب، وفي جميع الأحوال نحن نبني ولا نهدم.
لن تتكرر أحداث تلك الليلة الليلاء في تاريخ وطننا بفضل همة وعزيمة الأردنيين الذين أثبتوا ويثبتون في كل المحطات المفصلية والهامة أنهم مهما اختلفوا يجمعهم هدف واحد : الحفاظ على أمن وطنهم قرة عينهم وملعب طفولتهم ورصيد أبنائهم.
لن يداهمنا سواد الليل كما داهم غيرنا من حولنا بفضل رؤية عميقة حكيمة لقيادات أردنية تتقن فن السياسة وتلعب في حدود الممكن وتجيد المفاوضات.
مجتمعنا كله وتاريخنا بمجمله منذ تأسيس الدولة مبني على التفاوض والأخذ والعطاء، وقد نجحت فلسفتنا تلك في منحنا وطنا ينمو بنمونا ويكبر معنا يدا بيد.
وطننا سيبقى قويا شامخا بفضل قوتنا وتماسكنا ووحدتنا.... وطننا سيبقى مرفوع الهامة طالما بقيت هاماتنا نحن تطاول السحاب، وسيخطو نحو الأفضل والأجمل والأكمل طالما وضعنا " أفعل التفضيل" هدفا لنا لا نحيد عنه ولا نقبل دونه معيارا.