ليس من قاضٍ في هذا العالم معصوم عن الخطأ عند إصدار حكمه؛ إذ كل ما على القاضي هو أن يجتهد، ويحكّم ضميره وفهمه للقانون والدستور، وبعد ذلك يصدر قراره في النزاع المعروض عليه. فإن أخطأ القاضي في فهم القانون والدستور، وتحديد مدلولهما، فهناك محكمة أعلى بابها مفتوح لتصويب الخطأ. وتحدد النظم القانونية، ومنها المعتمدة في الأردن، أسلوباً إجرائياً حضارياً متوازناً ليسلكه الخصوم في الدعوى، من أجل تصويب خطأ القاضي، إن وجد.
يضاف إلى ما سبق، أن من حق وواجب فقهاء القانون أن يعلقوا على أحكام القضاء، فيبيّنوا أين أصابت وأين أخطأت من وجهة نظرهم. ولقد أصبح من البديهيات في فقه القانون، أن من يتصدى للتعليق على أحكام القضاء، يتوجب عليه أن يناقش الكيفية التي فسرت فيها المحكمة نصوص القانون والدستور وتحديد مدلولها، وأن يتعرض للكيفية التي طبقت فيها المحكمة هذا المدلول في الدعوى، والحيثيات التي سردتها للوصول إلى منطوق القرار. وفي كل هذا، فإنه يكون على فقيه القانون وهو يناقش كل جزئية من حكم المحكمة، أن يبدي أسبابه والأساس القانوني الذي ينطلق منه، ولكن بأسلوب لائق، ومهنية عالية، دون تجريح للمحكمة أو القاضي. ومثل هذا الأسلوب الذي تفرضه بديهيات الفقه، يختلف جذرياً عن كيفية تعرض القانوني أو غير القانوني لما يصدر من آراء وتوجهات سياسية عن أهل السياسة، وخاصة في دول الوطن العربي، ومنها الأردن؛ حيث أصبح يدخل في التكوين الشخصي لبعض من يلبسون ثوب السياسة، أن مفهوم السياسة يقوم على الفهلوة والشطارة و"لعب الثلاث ورقات"، والصراخ و"دب الصوت"، وليست علماً له أصوله ومفاهيمه ومناهجه، على النحو الذي أصبحت تدرسه الجامعات، وتخصص له أقساماً فيها أو كليات.
ومن حيث المبدأ، فإنه من السهل أن توجه نقداً أمام الرأي العام لأداء رئيس حكومة، أو وزير، أو مجلس وزراء، أو مجلس نواب أو أعيان، وأن يصل النقد حد التقريع في حالة خروج السياسي على المفاهيم والأصول المعرفية. لكنه يعدّ جريمة يعاقب عليها القانون، اتباع ذات الأسلوب عندما يكون الأمر متعلقاً بالقضاء.
إنني أُبدي استغراباً ودهشة من تلك الخطابات والمقولات باسم القانون، التي شهدها مجلس النواب، وتناولت حكم محكمة بداية شمال عمان رقم (1375/2012)، الذي قرر عدم دستورية جزئية من المادة الخامسة من قانون المالكين والمستأجرين، ووصفته بأنه "حكم استعراضي"! لا يا أصحاب السعادة، إن الهيئة التي أصدرت الحكم، برئاسة القاضي وليد كناكرية، قد سببت حكمها، ووضعت له حيثيات متسلسلة مترابطة، قادتها إلى النتيجة التي انتهت إليها. وبالتأكيد، فإن من حق كل من يملك أدوات المعرفة والبحث في القانون، ويدرك الكيفية التي ينبغي اتباعها في التعليق على أحكام القضاء، أن يتناول بالدراسة الفقهية قرار المحكمة، وأن يعلن موقفه من الحكم، مؤيداً أو معارضاً. ولكن ليس من حق أحد أن يجرّح بالحكم أو بالقضاء وأشخاص القضاة، ووصف الحكم بالاستعراضي. وأكثر ما أثار استغرابي، أن يصدر التجريح داخل مجلس النواب، وهو سلطة تشريعية لا تملك بالمطلق الدخول على ما يصدره القضاء من أحكام. ومثل هذا الذي حدث، أمر لا سابقة له، حسب علمي، في الأردن أو في أي دولة في العالم المتحضر. وحسناً فعل معالي رئيس مجلس النواب عندما أسكت من تطاول على القضاة وحكمهم.
يكفي أن نعلم أنه ليس هناك دستور في هذا العالم، في حدود معرفتي، يعطي لسلطة التشريع صلاحية إلغاء حكم قضائي أو تعديله. وحتى في الدول التي تسمح دساتيرها بإجراء استفتاءات شعبية، فإن الاستفتاء الشعبي لا يستطيع إلغاء حكم قضائي أو تعديله.
إن القضاء في الدول التي تحترم نفسها هو عِرض الدولة، بل وضميرها، وينبغي أن يظل دائماً خاليا من التدنيس والدنس. فإذا كانت هناك وسائل وطرائق لكيفية صون الأعراض، فليس من بينها بالتأكيد، القدح والتشهير والتجريح.
وفي هذا الصدد، فإنه لا يعنيني ما تناوله الحكم حول مقدار إيجار المثل ودور خبراء التقدير للأجرة ومناقشتهم بهذا الشأن، وإنما الذي يعنيني هو المبدأ، وجرأة الأستاذ وليد كناكرية، ونضج التأصيلات التي صاغ بها الحكم، عند تصدّيه لفرض مبدأ المشروعية الدستورية، والامتناع عن تطبيق القوانين التي يراها خارجة على هذه المشروعية. فلقد سبق لهذا القاضي المجتهد، الذي يتميز بإصراره على مواصلة زيادة ثروته المعرفية في القانون باستمرار، كما تدل اجتهاداته، أن أصدر عديداً من الأحكام التي قرر فيها عدم دستورية نصوص في القوانين وامتنع عن تطبيقها. وبدوري، فقد قرأت بعناية هذه الأحكام التي أصدرها قاضينا المتميز، وشعرت فيما أصدره من قرارات بعدم الدستورية، مدى ما لديه من حاسة دقيقة مرهفة، تجعله قادراً على تلمس الحد الفاصل بين النص القانوني المخالف لأحكام الدستور، وذلك المتفق معه. ومثل هذه الحاسة لا يسهل اكتسابها، إلا عن طريق اتساعٍ وتعمقٍ في القراءات والمتابعات للفقه والقضاء المقارنين.
إن المبدأ الذي طبقه الأستاذ كناكرية، والتأصيل الذي يشكل سنداً للمبدأ، نشأ قبل 209 سنوات في الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً في العام 1803، عندما كانت هذه الدولة تتكون من 17 ولاية، وسكانها لا يتجاوزون 4 ملايين نسمة. ومن أميركا، أخذ المبدأ وسنده في العبور إلى دول أميركا اللاتينية ثم عبر الأطلسي ويدخل دول أوروبا، لتطبقه الدول التي لا تمنع دساتيرها قضاءها من الرقابة على الدستورية بنص صريح. وبعد ذلك، قطع المبدأ البحر الأبيض المتوسط، ودخل إلى مصر، ليظهر هذا المبدأ بذات السند في أول حكم نهائي فيها العام 1948، حيث أصدره مجلس الدولة، عندما كان يرأسه عميد القانونيين الأستاذ عبدالرزاق السنهوري. ومن ثم كرست المبدأ محكمة النقض المصرية العام 1952. ومن مصر انتقل المبدأ وسنده بالكامل إلى الدول العربية تباعاً، ودخل إلى الأردن، لتأخذ به محكمة التمييز ومحكمة العدل العليا خلال الخمسينيات من القرن الماضي.
لقد عشت واقع الحياة الدستورية في الدول التي صدّرت للعالم النظامين البرلماني والرئاسي، ودرّست القانون الدستوري والعلوم السياسية، منذ خمس وثلاثين سنة، وحتى قبل إنشاء أول كلية حقوق في الأردن، وما أزال طالباً في محراب هذه العلوم، أتابع ما يستجد بشأنها في الفقه المقارن والسوابق القضائية في هذا العالم، حتى غدت المتابعة جزءاً من حياتي اليومية. ونشرت في هذا المجال الكتب والبحوث والدراسات. وحلم عمري أن أرى قضاءنا شامخاً، تنطوي أحكامه على سوابق يحاكي علوها سوامق الأشجار، لتكون منارةً تضيء طريق الباحثين عن الحق والعدل. ومن هذا المنطلق، فإني أُثني على الجرأة في الاجتهاد، وسلامة التخريج والتأصيل الذي قدمه الأستاذ كناكرية في حكمه. وأسبابي معرفية، وليس لأنه واحدٌ من طلبتي الذين أعتز بهم. وكلي أمل بأن نرى قضاة الأردن جميعاً، وهم يتصدون في أحكامهم لدستورية القوانين، بقلوب مطمئنة عامرة بنقاء العدالة، رافعين سيفها بأيدٍ لا تعرف الارتعاش، إذ هم سدنتها وحماتها.
الغد